بقلم جوّاد أحمد، طالب قسم اللغة العربية بجامعة إبراهيم
لقد سرى إلى جسد الكوكب الأرضي الإسلامي شتّى الأسقام المُعدِمة، وتخبّط مصلحوه في علاجها، وفشل أطبّاؤه في دوائها، فاندفعوا إلى أقوال وآراء تتضادّ فيما بينها، وتقطّعوا أمرهم بينهم زُبرا، ولم يطَّلِع أحد منهم على الوجه السليم والطريق القويم، ومما يخطر وقوعه في هذا الصَّدد أن كلاًّ من هؤلاء بما لديهم فرحون، وأن كلاًّ منهم يُندِّد ويهتف بأن الطريقة المُثلى هي طريقته، وما سوى ذلك هُراء، جرَّاء ذلك بدأ يبتعد عن اجتلاب المنافع، واسترداد التراث المفقود. ثم أضِف إلى ذلك ما تفرق الموحِّدون المعتقدون بعقيدة واحدةـ ــ عقيدة أهل السنة والجماعة ـــ إلى فِرَقٍ ونِحَلٍ ومذاهب، فذهبت ريحهم وزالت شوكتهم، وأصبحوا لُقمة سائغة للأعداء من الكفّار والمرتدّين. ولو كانت النزاعاتُ والخلافاتُ بينهم دائرةً حول مبادئ الشريعة وأصولها، لَبقِي للتنفُّس بعضُ مجال، وللنفس ذرَّة من القناعة والطّمأنينة؛ ولكن التصارع والتجادل في اختيار المذاهب الفقهية، أو الإسهاب في إحدى الطرق الصوفية، أو اعتناق بعض الأحزاب السياسية للحركات الدينية حتّى في تفضيل شخصية دينية على أخرى. ما أفظع هذه الحقيقة المؤلمة التي نشاهدها! وما أفزع حالتنا المأساوِيَّة التي تصدَّينا لها!! ولا تزال رحمة الله الشاملة، وآلاؤه السابغة سرمديةً علينا لو أذنت الشريعة الغرَّاء لنا في أن نزاول عملا من الأعمال الموصوفة -خارجين عن حدها المحدود، وحريمها المعهود-
شَغَلْتَ النَّفْسَ بِطَرْدِ الْكَلْبِ عَنِ الْبَابِ وَمَنْ لِدَفْعِ السَّارِقِ يَمِيْلُ إِلىَ الْأُهَبِ
حقًّا، أن الله -سبحانه وتعالى- ألَّف بين قلوب هذه الأمّة بعد أن كانوا منغمسين في التشتت و التفرق، وعزَّزهم غِبَّ أن كانوا أذِلاَّء مطرحين على وجه هذه الأرض. قال الله تعالى: ﴿وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ، فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾ (آل عمران:103).
قال قتادةُ – رضي الله تعالى عنه – في تفسير هذه الآية الكريمة:"كان هذا الحيُّ من العرب أذلَّ الناس ذُلاًّ، وأشقاه عيشا، وأبينه ضلالة، وأعراه جلودا، وأجوعه بطونا، معكومين على رأس حجَر بين الأسدين فارس والروم. لا والله ما في بلادهم يومئذ من شيء يُحسَدون عليه، من عاش منهم عاش شقيًّا، ومن مات رُدئَ في النار، يؤكلون ولا يأكلون، والله ما نعلم قبيلا من حاضِر الأرض كانوا فيها أصغر حظًّا، وأدقَّ فيها شأنا منهم؛ حتّى جاء الله -عزَّ وجلَّ- بالإسلام، فورثكم به الكتاب، وأحلَّ لكم به دارَ الجهاد، ووسّع لكم به من الرزق، وجعل لكم به ملوكا على رقاب الناس" انتهى كلامه رضي الله عنه.
وإن الله تعالى منحَنا منحا، وهدانا في الدارين لطريق الفلاح والنجاة. ولكِنَّنا -على علمنا بأن الشيطان عدوُّنا المبين- عثَرتْ أقدامنا، فتركنا الفرقان الحكيم، وتعرَّضنا للمصالح الحزبية المتنوعة، والمنافع الذاتية الوقيحة؛ تستحيي المسامعُ من الإصغاء إليها، وتتحيَّر العقول إذا تُدركُها ويستنكرُها الطبعُ الإسلامي السليم. حتّى آل الأمر إلى ما لا يُرجَى، ولا تستطيع أن تُفرِّق بين صِنفَيِ العامة والخاصة في بيداء الخبْط العَشْواء، والضلالة العمياء، ذلك، فإن المُنتسِبين إلى التزويد بالعلوم النبوية والفنون الشرعية مسَّتهم نزغات إبليس اللعين ووَساوِسه –إلاّ من رحِم ربّي، ولا تزال طائفة من هذه الأمة المرحومة علىى الحقِّ يبقُون إلى قيام الساعة- يكتُمون ما أمرهم ربُّهم، ويكمُنون ما جاء به رسولهم، يزيِّنون الظّلم للظّالم، ويتمثَّلون في رِدّة المرتدّ، تفُور دماؤهم إذا أبصروا بكافر يمزَّق ولا يُدافع عنه، وتنبُغ من قِبلهم عينُ الفتاوى الزائفة متى شاهدوا نيل المجاهدين من أربابهم، جعلوا سماحة الإسلام وَلاء الكفرة والمشركين، جعلوا القوانين الوضعية البشرية من الدِّيمُقْراطِيّة والشُّيوعِية والرّأسُمالية والإِمْبَرالية شورى شرعية، سجُّوا الوجه البشع لأمريكا الخبيثة الشريرة وأذيالها بغِطاء مصالحة الرَّفاهية والسلمية، ودافعوا عنها بأنها على الحق؛ تقُود العالمَ إلى الأمن والسلامة، نبذوا كتاب الله وراءهم ظِهريًّا، مثلهم –هؤلاء علماء السوء- كمثل الكلب، كمثل الحمار يحمل أسفارا، ولا حوْل ولا قوَّة إلاَّ بالله.
وأما العوام فوَضعُهم كوضع قطيعة الغنم، تتبادرُ حيث يسُوقها الراعي، ولا يَقدِرون على التمييز بين الغَثِّ والسّمين، إذا ظهرت طَلْعة أحد، وأشاع بينهم بأن فلاح الأمة ونجاحها في الخضوع والخنوع، وأن دين الإسلام لا يفيضُ إلاَّ بيَنبُوع الرأفة والرحمة، أما الغِلاظة والشدة، والمَجزَرة والمَذبَحة فنكرها الشريعة من الغاية التي لا تكون وراءها غاية أولعوا الأنفس به، واعتنقوه اعتناق الوليد الرضيع صدرَ أُمّه.
وبالجانب الآخر لو حل مجدد –زُورًا وكَذبًا- ينادي نداء التصوف الأَبلَه، والتزكي المنحرف، وقد حصر عُصارةَ الدين وخلاصته في قفَصه الوضعي النفسي يظنُّه السوقة مأوًى أمينا، وحِصنا حصينا؛ يلجؤون إليها أفواجا، متحمِّلين الأماني المعسولة، ومربِّين الأحلام المستحيلة، فما ينشبون أن يتجلّى الغيم ويزال الغبار، فيعلمون أنهم استعذبوا الحَنظلة، واستسمنوا المتورِّم، وبالحمقاء تتلاعب الأقدار كهذا.
ولو أنشأتُ أصِف للأمة المسلمة الراهنة كل داء اجتاحها بتفصيل لما يستصحبني الفُرَص ولا الأوقات، ولا أراه ضرورة لأَحدُو في نفسها أمل البراءة من السقم، وحلم قضاء المعيشة بالصحة والعافية. ولكنّي نذير مبين؛ أسعى سعيا حثيثا لأدلّها إلى الدوافع التي جعلتها وضعاء أوباشا، وصيّرتْها عبيدا لمحاربي الله الرّحمن، وأعداء الشريعة الوضّاء الغرّاء، والمحجة الحنفية البيضاء؛ منتزعة عن رأسها تاج سيادة العالم وقيادته، ونازعة عن صدرها نور التنزيل المبين وهدايته.
وها هو رسولنا العدنان، ونبيّ النفس بالجنان ﷺ بيّن لنا الداء، ووصف لنا الدواء، لو عقلْنا -ولو لحظة- وعالجنا به –ولو قطرة- "إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعَيْنَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيْتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمُ ذُلاًّ لاَيَنْزَعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوْا إِلَى دِيْنِكِمْ" (أخرجه الإمام أبو داود في سننه).
فهذا هو الدواء كتَب لنا الطّبيب الشّفيق الحَنين على أمّته، الرؤوف الرحيم في كل شأن من شؤونهم.
وليت الأمر يتوقف على هذا الإطار، ولكن سُوء حظّنا أن جمًّا غَفيرًا من المُنتَمين إلى الإسلام ينكرون شرعية الجهاد بطُوله وعَرضه، ويقيمونه ضدّ صف متطلَّبات الإسلام، وبعضهم يتوغّلون في أحكامه بتحريف وتصحيف، فيُزوِّرون ويُلبِّسون، ويتبوؤن النّار مقاعدهم وهم لايشعرون.
فيا معشر الشّباب، أحفادَ ابن الوليد وابن الخطّاب!
إن القرآن يناديكم، وأنتم منه تبعدون، وهو يمُدّ إليكم يد العزة والرفعة، وإنكم تردونها، متى يعود إليكم غيرتكم، وتندبون لنداء إلهكم : "قَاتِلُوْهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيْكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيشْفِ صُدُوْرَ قَوْمٍ مُؤْمِنِيْنَ، وَقَاتِلُوْهُمْ حَتَّى لَاتَكُوْنَ فِتْنَةٌ وَيَكُوْنَ الدِّيْنُ كُلُّه لِلّهِ، قَاتِلُوا الَّذِيْنَ يَلُوْنَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدِوْا فِيْكُمْ غِلْظَةً، لَاتَتَّخِذُوْا عَدُوِّيْ وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُوْنَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ، وَاقْعُدُوْا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ....."
فآن لكم، آن لكم أن تقوموا من جديد بعد أن طال الرقود في نوم الهَوان، وتنفضوا عن أجسادكم غبار الذل والشَّنار، فقد ولَّى مدبرا زمان اللطم والعويل، وبدا فجر العزة والرفعة من جديد، وهناك طائفة من المجاهدين ضحّوا بأشلاءهم وجماجمهم، ليطهّروا الأرض من دنس الشرك والكفر، ويطبّقوا فيها أحكام الله وشرعه، فحيُّوا على المنهج السوي، وتعالَوا إلى الصراط المستوي، ولايغلبنّكم الحرص على المُهج، فإنكم قوم انتصر به نبيّكم، حيث قال "نُصِرْتُ بِالشَّبَابِ"، واستعظِموا نعيم الجنة التي لاتزال في الحقيقة جزاءً وفاءً، وقرارًا سعيدًا، قوموا وانصروا، واجعلوا نهار الكفرة وعملائهم ليلا، وأقِضّوا عليهم مضاجعا، ونغِّصوا عليهم معايش، وعكِّروا عليهم مطاعما ومشاربا، وبادروا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، واعلموا أن الشهداء والقتلى في سبيل الله أحياء لا ممات لهم، وبدمائهم الطاهرة، وأرواحهم الزكية تبقى نضارة شجرة الإسلام وخصبها، ويستظل سكّان العالم تحت ظلّها الوارف، فتُسوّد الدنيا بأسرها الطمأنينةُ والسكينةُ، والأمن والسلامة.
وإليكم تلكم الأبيات المُفعَمة جيشا وهِياجا التي كتبها أمير المؤمنين في الحديث عبد الله بن المبارك –رحمه الله تعالى- من ساحة القتال إلى المحدث الفاضل، والمتعبد الزاهد فُضيل بن عِياض –عليه الرحمة- مما أفاض دموعه، وتركه هائما يتردد:
يا عابد الحرمين لو أبصرتَنا
لعلمتَ أنّكَ في العبادة تلعبُ
من كان يخْضَب خدَّه بدموعه
فنُحورنا بدمائنا تتخضَّب
أو كان يتعب خيلَه في باطل
فخُيولنا يومَ الصَّبيحة تتعبُ
ريح العَبير لكم ونحن عبيرُنا
وهجُ السنابكِ والغبارُ الأطيبُ
ولقد أتانا من مقال نبيِّنا
قولٌ صحيحٌ صادقٌ لايكذبُ
لايستوي غبارُ خيل الله في
أنف امرئٍ ودخانُ نارٍ تلهبُ
هذا كتاب الله ينطِق بيننا
ليس الشهيدُ بميِّت لايكذبُ.
وصلى الله على النبي الأمي وعلى آله وصحبه أجمعين.