المحادثة مع النفس

بقلم ريحان الدين منير

أخبرني عمر فاروق، قال : بينما أنا في مبنى يتألف عن خمسة أطباق من مباني الدنيا المزدخرة، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه فيممت أن أستمتع بقسط من الراحة بالهواء العليل، فقصدت الدهليز، إذ بي أسمع صوتا يجلجل، فشخصت بصري، فإذا رجل يتكلم! فحدقت النظر إليه، وأصغيت إليه بأذنيَّ، فإذا هو يداول مع نفسه، والفضاء وربُّه أمامه، وكأن وجهه الكوكب المشبوب حسنا وبهاء، ولو لا سحابة غبراء من الحزن تتدجى فوق جبينه! وقد استولت عليه الكآبة كأنه غريق فيها، يتهافت لها جسده تهافت الخباء المقوض، يتقاطر من كلماته الحزن و البؤس، يرسل العبرات في الفينة بعد الفينة، وهو يتحدث ونظره عالق بالقمر التي ترقرق في كبد السماء!

يا نفس! إلى متى تتيهين وراء المحبة الخالية التي لا أصل لها؟ حتامَ تحرقني في نار المحبة الزائلة التي لا قرار لها؟ أما شاهدتِ يا نفس! إن الذين تحبينهم قد أعرضوا عنكِ وتركوكِ ورائهم ظهريا؟ كم من رجال أحببتِهم! وكم منهم جعلتِ إخوة! إذا لقيتهم سلمت عليهم وبصبصت أمامهم حتى ماتركتِ أية حيلةٍ إلا استخدمتِها لرضاهم!!

ولكن ما تزودت منهم إلا ابتساماتٍ لا تدري أعذوبة هي أم استهزاء! وكم من أوقات ضيعتها لهذه الابتسامات! وكم من مال أنفقتِ لها! وكم لمحات مضت منكِ وأنتِ تنتظرينهم انتظاركِ للهلال! إذا شاهدتِ تبسمهم كأنك انفجرتِ من شدة الفرح! وكأن عقلك كاد يفقد رشده! وإذهم يداولون معكِ كأنكِ تطيرين فرحا وطرباً. وإذهم ينظرون إليك لا تدرين أنظرة شزراء هي أم صافية، نظرة واترة أم نظرة حبيبة! تزعمين أنكِ من أسعد السعداء!! يا لها من أحمق مخدوع!

يا ليت نفسي لو تعلمين أنهم لا يحبونك أية محبة! لو تدرين أيتها النفس الضالة أن محبة الناس كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا بلغ عنده لايتزود إلا خداعا! نعم يا نفس قد دريتها بعد فوات الأوان! فتقضين ليالي بيضاء تذوقين وبال أمرك!!

يا نفس! إلى متى تحبين شخصا حب البحار الذي لا يحبك حب القطرة؟ تداخلين معه مداخلة الصديق لصديقه وهو يداخلك مداخلة الخادع! إنكِ تعتنين بكلامه أشدَّ إعتناءٍ وهو لا يعبأ بكلامكِ ولا يعتني، بل يجعله طرفا!

أسف وحسرة لكِ يا نفس! ويحا لك مأة مرة بل ألف مرة! ألهذا خُلقتِ يا نفس؟ تعدو وراء الدنيا ووراء محبة الناس! ما الدنيا إلا بحر زاخر! وما الناس إلا أسماكه المائجة فيه! وما ريب المنون إلا صياد يلقي شبكته كل يوم، فتمسك ما تمسك، وتترك ما تترك! وما نجا من شبكته يوماً لا ينجو منها غدا!!

وما محبة الناس إلا سلاح ينتفع به المنتفعون، ويستغل به المستغلون! أو هي بضعة يرتزق بها المرتزقون، ويتجر بها المتجرون! في أفواههم حلوة المحبة وفي قلوبهم حرص النفعة! ما أقبح صنيعتهم! وما أشنع سلوكهم!!

ورأيت يا نفس من الذين يتكبرون كأنهم يطيرون مرحا وخيلاء! بعضهم الأغنياء، فلا ينظرون إلى الفقراء نظرة صافية! وبعضهم الأبيض جلدا، لا ينظرون إلى الناس نظرة مادحة! الدنيا في أعينهم سواد في سواد! لا يرون أجمل من أنفسهم ولو طلع البدر متلألأ! وأما لو فوجؤوا بأسود ينظرون إليه كأنه وحشي الغابة أو همجي الجاهلية! ولو حدثوه لا يحدثون إلا وهم يصعرون خدودهم عبوسين! وإن إلههم إله واحد! ودينهم واحد! أهذه إنسانية؟؟ يُفهمون بسلوكهم وسيرتهم إن أشقى الناس في الدنيا الفقراء والأسودون! اللهم القليل من الناس الذين يملكون قلوبا صافية ونفسا مطمئنة!

فأريحني أيتها النفس الأمارة بالسوء من هذه المحبات الجافية ومن هذه القيودات القاسية! إني لأريد أن أرجع إلى فطرة الله التي فطر الناس عليها! أعود مما رجعت منه إلى اللحظات الذهبية النافعة! كم كانت تلك اللحظات سعيدة! وكم كانت تلك الأيام جميلة! كم كانت الأعمال التي عملتها في الأيام الخالية مفيدةً! كنت قضيتها في الصبر والرضا بالقضاء! قد كنت جعلت الله كفيلا وحبيبا ألجأ إليه في السراء والضراء! وأشكو إليه بثي وحزني وهمي وغمي!

أيتها النفس الخبيثة! قد عدلتني من حالتي تلك، وأولجتني في نار المحبة! فأفسدتِ ديني ودنياي! أيتها النفس اللعينة! فإلى متى ترزف أبصاركِ لهذه المحبة الحالقة؟ وإلى متى تسكب عيونك لهذه التماثيل اللامعة الزيوفة! أما دريتِ يا نفس إلى ما آلوا بكِ؟ أما زالت بعد من عينيكِ النظارة البرّاقة! أما تجلّت لكِ الحقيقة؟

أما علمتِ يا نفس أن الله – خالقكِ - هو المستحق الوحيد للمحبة في صفحة هذا الوجود؟ فإنه تعالى يحب عباده دون أن يريد منهم جزاء ولا شكورا، وأما الذين تسعين ورائهم إنما هم النفعيون، لا يريدون إلا مكافأة بل ربحا وتجارة! فلم ولم تحبين هؤلاء وتدعين الله خالقك وربكِ! كم مرة نسيته فذكركِ! عصيته فعفا عنكِ! إنه غفور عليم، إنه تواب حليم، إنه جواد كريم، ملك برٌّ رؤوف رحيم!

فقولي يا نفس! لماذا لا أذكر ربي ولا أحبه وأحب دونه؟ أليس هذا ظلم عدوان؟ أليس هذا شرك كفران؟ فلا أحب إلا ربي! ولا أتبع إلا الله! إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون! وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

        1. ​ الكاتب : ريحان الدين منير(من أسرة قسم اللغة في العام الدراسي 1436-37ه)والطالب الحالي بقسم التخصص في علوم الحديث الشريف بمركز الدعوة الإسلامية.

اترك تعليقاً