بقلم بهاء الدين
في الربيع، عطلت المدرسة، اتجه الطلاب إلى بيوتهم مسرعين، كأنهم فلول جيش منهزم، وأما أنا فقد أردت أن أقضي العطلة في المدرسة، وأمكث طول العطلة فيها، لأن بيتى يقع على بعد بعيد عن المدرسة، يستغرق السفر إليه أوقاتا طويلة، لا تقل عن 15 ساعة، وربما تزيد بسبب ازدحام المرور الذي هو كالجزء الذي لا يتجزأ للسفر في بلادنا الحبيبة الغريبة!! ثم أنني بدأت أفكر أُعمل فكري في وضع خطة خاضعة للعقل لقضاء أيام العطلة الطويلة أو غير الطويلة على اختلاف آراء الطلاب في طول العطلة وعرضها! بيد أن العطلة كانت تمام 5 أيام فصاعدا، من 10 الأحد صباحا إلى 5:30 مساء الجمعة.
كنت أفكر وأفكر، ماذا أصنع؟ وما يحق لي أن أصنع في العطلة، حتى أسري عن نفسي تعب الدراسة المستمرة ويعود إلى الجسم نشاطُه وإلى العقل حدته ومضاءه؟ فأدركت أن الأمر هام جدا، وبينما كنت أسبح في بحار الأفكار والأحلام إذا تذكرت قرية عمي، ووجدت في ذاكرتي صورتها الصافية الحية، أرى أمامي قرية يجري من تحتها جدول سيال، سبحان من أروع منظره، وما أحسنه وأبهجه! وقد امتدت صفوف الأشجار الشامخة المتصافة على شاطئ الجدول مما زاده حسنا وجمالا، كأنما غرسها بستاني ماهر أو مهندس بارع، يتفيأ ظلالها الصيادون، بنَت عليها أصناف الطيور أعشاشَها، وتمرح بين أفنانها الطيور على اختلاف ألوانها، وإذا قدمت على شاطئه ليلا يتخيل إليك أنك في عالم الحباب!
وإذا أصبحت رأيت الراعي يذهب إليها بالماشية، فيرتع غنمه وبقره في العشب الأخضر، ثم يرجع بهما مساء، وإذا أمسيت رأيت الطيور عائدة إلى أعشاشها بطانا بعد أن خرجت خماصا، وإذا أقمت على الشطِّ قسطا من الوقت رأيت الزوارق، والبواخر تحمل البضائع وتنقلها من مدينة إلى أخرى مسرعة إلى غايتها، وأما ماء النهر فنقي شفاف، ترى تحته ألوان الأصداف وصنوف الأسماك، وهي تجري هنا وهناك، وربما تقرب من الشط، فتدخل في شبكة الصياد، فيجر الصياد شبكته بشدة ويرفعها على الشاطئ، ويأخذها فرحا وطربا، ويحمد الله قد يسّر الأمور، وترى الزائرين صباحا ومساء يزدحمون على شطّه، ويتمتعون بجمال الطبيعة، ويرجعون إلى بيوتهم وقلوبهم صافية وعقولهم حادة، وأجسامهم قوية نشيطة!
كنت هائما في عالم الأفكار، سائما في ميادين الأحلام، وقد مضى من الوقت ما شاء الله أن يمضي، ثم إنني عدت إلى نفسي، ووجدتني في غرفتي وحدي، ولكنني فرحت من أجل أنني قد قضيت ساعة من الوقت ولم تلزمني غرامة مالية، فقد استمتعت ساعة بغير كلفة مالية، ثم إنني نويت الرحلة إليها، وطويت حقائبي لها، ووجهت قلبي ووجهي إليها، وما إن لبست ملابس السفر حتى هتف أحد أصفيائي من وراء الباب صارخا :
إلى أين يا بهاء الدين؟؟
إلى قرية عمي!
ألا تأخذني معك؟
طبعا، إذا شئت!
فاتفقنا أنا وصديقي على الرحلة إلى قرية عمي، وصديقي هذا ولد نبيل، أحبه لحسن أخلاقه، وحدة ذكائه، وصلابته على الأمور الدينية والسنة النبوية، وقلما رأيته يعمل عملا لا يوافق الكتاب والسنة.
وقررنا السفر بالقطار، فاكترينا مركبة، ووصلنا من ساعتنا إلى المحطة، وبما أننا لم نشتر التذاكر ولم نحجِز له من قبل لم نستطع أن نشتري تذاكر الدرجة الأولى، بل وجدنا تذاكر سياحية، وما رمنا مكاننا حتى سمعنا صفير القاطرة، فأسرعنا إلى الرصيف ولم يكن معنا إلا حقيبة واحدة، ولما استوينا عليه هز أمين القطار العلم الأخضر، فتحركت القاطرة، وأقلع المحطة في 15 : 5 مساء، وسار القطار بسرعة فائقة، وقد رأينا في بعض المحطة القطار الوقاف، ورأينا الزائرين منتظرين قطارهم، وكان قطارنا لم يتوقف إلا في محطة المطار الذي يقف عليه كل قطار يمر به، فركب رجال عادوا من السعودية، وكان منهم رجل قد رحل إلى السعودية لأداء العمرة، فيا له من حظ وافر! فتمنيت لو كنت معه، أو أسافر وحدي إليه.
وكان صديقي مستغرقا في النوم، وكان إذا ركب القطار نام السفر كله أو جله، وبما أيقظته لينظر بعض ما يعجبني، ولكنه لم ينشط لذلك ولم يهتم به، وقد وصلنا إلى محطتنا المرموقة في العاشرة ليلا.
لم يكن في انتظارنا أحد، لأنني ما أخبرت أحدا عن سفري، ولست ممن يهتم بسفره أحد من الناس، ولا أنا من رجال السياسة أو زعيم الحزب حتى ينتظر لي ألوف من الناس ويرحبوني طائعين أو كارهين، ولما نزلنا من القطار وخرجنا من المحطة لم نر مركبة ولا ركشى إلا سائق ركشى مستلقيا على مقعده وهو نومان، فلم أر من الحلال أن أوقظه من نومه، ثم يسوق بنا الركشى وهو نعسان، فينزل في بعض الغدير بركشاه ونحن معه! فلم أجد بدّا من أن نعمل الأقدام، نمشي إلى الأمام، فمشينا وتقدمنا، وامشوا معنا أيها القراء الكرام..... وتقدموا......