بقلم : محمد هارون العزيزي الندوي
لقد فوجئنا وفوجئ الأوساط العلمية والدعوية وعروش تدريس الحديث النبوي فى جمهورية بنغلاديش بنبأ وفاة المربي الجليل، والمحدث النبيل، شيخ الحديث ، أقدم وأكبر أساتذة ومدرسي الجامعة الإسلامية عزيزالعلوم بابونغر، فتكصري ، شيتاغونغ ، بنغلاديش ، أستاذنا وشيخنا العلامة يونس أحمـد شيخ الحديث بالجامعة ، ظهيرة يوم الأربعاء 27 رجب 1440 هـ الموافق 3 إبريل 2019م ، عن عمر يناهز 97 سنة ، بعد ما عانى كثيرا من الأمراض المزمنة والشيخوخة بضعة أشهر، في غرفته الخاصة من الجامعة، وصلى عليه صلاة الجنازة رئيس الجامعة العارف الرباني الشيخ محب الله البابونغري في ساحة الجامعة الفسيحة ، بحضور جم غفير يقدر بالآلاف من العلماء والطلاب ورجال السياسة ورجال الأعمال والمحبين والأصدقاء من عوام الناس من مختلف أنحاء الوطن .
ووري جثمانه في المقبرة العزيزية التي تقع جنب جامع الجامعة ، وخلف الشيخ وراءه أولادا وأحفادا، وآلافا ممن تلمذ عليه في العلوم الإسلامية من العلماء والطلاب وعددا غير قليل من المحبين والأصدقاء. رحم الله شيخنا الراحل وغفرله وأسكنه بحبوحة جنانه وألهم ذويه الصبر والسلوان .
وأنا إذ أعزي أهل الشيخ في هذا المصاب الجلل أعزي أسرة جامعة بابونغر أساتذة وطلابا ، وعلى رأسهم شيخنا العلامة العارف الرباني الشيخ محب الله البابونغري رئيس الجامعة ، والشيخ حبيب الله البابونغري والشيخ شفيع العالم والشيخ المفتي محمود حسن والشيخ أبوالكلام والشيخ أيوب وغيرهم من الأساتذة .
مولده ونشأته :
ولد الشيخ العلامة محمد يونس بن المنشي ولايت علي في قرية علي بور من مديرية هاتهزاري ، شيتاغونغ ، بنغلاديش سنة 1926م ، في أسرة مسلمة عريقة ونشأ و ترعرع فيها ، وأخذ العلوم الابتدائية في دار العلوم معين الإسلام هاتهزاري ، بنغلاديش ، من أساتذة أجلاء ، أمثال الشيخ المفتي محمد فيض الله والشيخ خليل الرحمن الراموي والشيخ عبد الوهاب والشيخ عبد القيوم والشيخ عبد العزيز والشيخ المفتي أحمد الحق والشيخ حافظ أحمد وغيرهم .
رحلته إلى الهند لطلب العلم :
ثم ارتحل الشيخ إلى الهند للدراسات العليا في التفسيروالحديث وأصولهما والفقه وأصوله وعلوم القرآن وغير ذلك من العلوم والفنون العربية ، فالتحق بأزهر الهند دار العلوم ديوبند سنة 1370 هـ ومكث ثلاث سنوات يتلقى دراساته العليا هناك حتى أكمل درجة التكميل يعنى دورة الحديث ، ودرس لدى الأساتذة الكبار لجامعة ديوبند وقتذاك ، أمثال شيخ الإسلام العلامة حسين أحمد المدني ، وشيخ الأدب العلامة إعزاز علي ، وحكيم الإسلام العلامة المقرئ محمد طيب والعلامة إبراهيم البلياوي والعلامة فخر الحسن رحمهم الله واستفاد منهم كثيرا .
حياته التدريسية :
وبعد أن تضلع الشيخ من العلوم والمعارف والأخلاق والآداب الإسلامية والورع والزهد والتقوى رجع من الهند إلى بنغلاديش سنة 1373 هـ ، و عين مدرسا للجامعة الإسلامية عزيز العلوم بابونغر ، شيتاغونغ ، بنغلاديش. ولم يزل يدرس العلوم الشرعية في نفس الجامعة حتى يوم وفاته ، لقد درس الشيخ في هذه الجامعة أكثر كتب المقررات الدراسية في منهج التعليم للدرس النظامي من بداية الصفوف إلى نهايتها (دورة الحديث ) طيلة 68 سنة ، وزين عرش مسند تدريس صحيح البخاري إلى 30 سنة تقريبا .
المناصب :
لقد شغل الشيخ مناصب عدة في جامعة بابونغر ، منها منصب عمادة التعليم ولم يزل في منصبه حتى آخر حياته ، حتى عرف عند الطلاب باسم " ناظم صاحب حضور" ، وكان شفيقا على الطلاب في هذا الأمر، يراعي دائما تربيتهم العلمية والدينية . ومنها منصب شيخ الحديث وهذا يعنى من يتولى تدريس صحيح البخاري ، فقد درس صحيح البخاري في هذه الجامعة قريبا من ثلاثين سنة . وكذلك كان الشيخ عضوا لمجلس الشورى بجامعة دارالعلوم معين الإسلام هاتهزاري ، شيتاغونغ .
تلاميـــذه :
لقد استفاد من الشيخ في الجامعة الإسلامية عزيز العلوم بابونغر عدد لايحصى من الطلاب الوافدين إلى الجامعة من شتى أنحاء جمهورية بنغلاديش ، لو ذهبت أسرد أسمائهم لأتى في مجلدات ضخام ، وعلى سبيل المثال : منهم الشيخ المفتى عبد السلام الصاتغامي والشيخ المفتي محمود حسن ، والشيخ أبو الكلام والشيخ أيوب والشيخ شعيب والشيخ ميرحسين والأستاذ الحاج يوسف والأستاذ زكريا الحسن آبادي والمفتي عثمان صادق و كثير من أساتذة الجامعة الحاليين ، وراقم هذه السطور وغيرهم .
خلقـه وأدبـه :
كان الشيخ من الذين عاشوا حياتهم لله ، ونذروا أنفسهم وملكاتهم ومواهبهم في سبيل الله عبر نشر العلم الصحيح في الناس ، ومن الذين آثروا أن يعملوا في صمت ، ويبنوا في هدوء ، ويشاركوا في إعداد الجيل بعيدا عن الأضواء، فكان متواضعا هادئا ، سهلا لينا ، متبعا للسنة بالمعنى الصحيح فى سيرته وسلوكه ، ورعا زاهدا فى الدنيا وراغبا فى الآخرة ، مقتنعا بالقليل من متاع الدنيا ، وعارفا ربانيا ، ذاكرا لله خاشعا ، عكف نفسه فى سبيل نشر العلم والسنة ، ملتزما بالوقت ومهتما به أيما اهتمام في كل شيء ، فكان يعرف قيمة الزمن و يقدر الوقت ويبذله في الحصول على مزيد من العلم والمعرفة وكثرة المطالعة والذكر والتسبيح والتهليل والتحميد وتلاوة القرآن ، كان رباني الأخلاق والسلوك ، عفيف اللسان ، يفضل الصمت والسكوت على الكلام كثيرا ، ولايتكلم إلا للضرورة ، وكان دائما بعيدا كل البعد عن الوقيعة في الناس ، والغيبة والنميمة والبذاءة ، لايحقد على أحد ، ولايضمر لأحد غلا ولاشرا ، لايذكر أحدا بسوء لاحضورا ولاغيبة ، لم يكن مازحا ولا هزليا وإنما كان جديا فيما يقوم به من الأعمال ، ينجز أعماله في الوقت المعين ، فكان نموذجا رائعا للسلف الصالحين ، ومثالا رائعا لخير خلف لخير سلف .
ثناء العلماء عليه :
قال عنه صديقه الوفي العارف الرباني العلامة الشيخ محب الله البابونغري رئيس الجامعة قبل صلاة الجنازة عليه : " كان الشيخ العلامة يونس من العلماء الصالحين في هذا العصر، رأيته دائما يصلى مع الجماعة في الصف الأول ، ولم تفته التكبيرة الأولى قط ، و حينما كان يخرج من المدرسة للذهاب إلى البيت يمشي ناظرا إلى قدميه فلاينظر يمينا ولا شمالا، لم يجادل مع أحد قط حسب علمي ، لقد قام بتدريس الحديث أكثر من ستين سنة ، ولم يره أحد صلى في الصف الثاني يوما ما ، ولم يره أحد دخل المسجد بعد بدأ الإقامة، بل كان يسبقها دائما ، ولم يسمعه أحد اغتاب أحدا قط . كان يستعد للحضور في الحصة الدراسية قبل الوقت ، كان يعمل بكل جد واجتهاد وفق الأحاديث التي كان يقوم بتدريسها طيلة حياته ، وكان والدي مؤسس الجامعة المرحوم العرف الرباني الشيخ محمد هارون البابونغري –رحمه الله - يقول في ثنائه : إنه عمود أوسط للجامعة ، فبوفاته فقدنا العمود الأوسط للجامعة . "
وقال عنه تلميذه الشيخ المفتي عبد السلام الصاتغامي المفتي الأعظم لجامعة دار العلوم معين الإسلام هاتهزاري : " لقد درست لدى الشيخ يونس كتاب نور الأنوار في أصول الفقه ، كان طريقة تدريسه مرتبة ومنظمة ورائعة جدا، فكان يأتي أولا باعتراضات الشوافع والحنابلة في ضوء الآيات والأحاديث حسب ترتيب المصنف ، ثم يأتي بردود الأحناف عليها في ضوء الكتاب والسنة ، ثم يشرح الأصول والأدلة لكلا الفريقين في الموضوع شرحا وافيا شافيا لاغبار عليه، وهكذا نفهم عبارة المصنف بسهولة ويسر كبيرين .
وإذا استفسسر أحد من الطلاب عن شيء يتبسم قليلا ويجيب عنه بجواب شاف ثم يسأله ، هل فهمت ؟ فإذا أشار بنعم يتقدم إلى الأمام . ومن ميزاته التي لمسناها في الدروس أنه لايشتغل في الحصة الدراسية أبدا بما سوى الكتاب والطلاب ، ولايلتفت إلى شيء آخر . وإنما يهمه إفهام الطلاب .
لم أر مثله في تقدير الوقت والالتزام بالواجب ، كان يعمل على أصوله وعاداته الحسنة بشدة ، ولا يحيد عنها قيد شبر . وكان متصفا بكثير من الصفات الجميلة والأخلاق الحسنة مما لايمكنني بسطه الآن ، رحم الله أستاذنا . "
وقال العلامة الشيخ جنيد البابونغري شيخ الحديث والمدير المساعد لجامعة دارالعلوم معين الإسلام هاتهزاري في كلمته العزائية : " أنا حزين جدا على وفاة الشيخ المربي يونس أحمد شيخ الحديث بجامعة بابونغر وتلميذ العلامة حسين أحمد المدني ، ومحط احترام علماء شيتاغونغ ، كان عالما أي عالم ، وشيخا كبيرا من المشائخ العظام ، لقد درس الحديث في جامعة بابونغر زمنا طويلا، وأنا أعتبر أن وفاته خسارة فادحة في أوساط العلم والتربية والتعليم . "
وقال تلميذه الشيخ المفتي محمود حسن شيخ الحديث ومفتي الجامعة الإسلامية عزيزالعلوم بابونغر في كلمته العزائية قبل صلاة الجنازة عليه : "إن العلامة يونس أستاذي ، وهو صورة حية للعمل بالحديث ، فكأنه تعبير عملي لمايدرسه للطلاب من أحاديث صحيح البخاري ومسلم وغيرهما من كتب الحديث ، ولقد درس لديه الحديث أكثر من عشرة آلاف طالب تقريبا ."
لقد درست لديه كثيرا من كتب المنهج الدراسي مثل مختصر المعاني والجزء الأول من الجلالين والجزء الثاني من صحيح البخاري ، وعشت معه عقدا ونصف عقد من الزمن ، وما لمست منه طيلة هذه المدة إلا الرفق واللين والمحبة والود والسماحة والعفو والكرم والسذاذة واحترام الآخرين وإكرام الناس والخوف من الله والخشية منه والذكر وتلاوة القرآن والخشوع والتضرع والشوق والرغبة إلى التعليم والتربية .
فهذا غيض من فيض من ذكرياته الطيبة ولوجمعت كله لأصبح مجلدا ضخما ، وكل هذا إن دل على شيئ فإنما يدل على حسن أخلاقه وحبه للعلم وأهله وطلابه واهتمامه بنشر علوم الدين على المدى الواسع الدين وترجيحه وإيثاره الدين على الدنيا الدنيئة الفانية .
اللهم فاغفر لعبدك شيخنا وأستاذنا و ارحمه و عافه و اعف عنه و أكرم نزله ، ووسع مدخله و اغسله بالماء و الثلج و البرد ، وباعد بينه وبين خطاياه كما باعدت بين المشرق والمغرب ، و نقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ، وأبدله دارا خيرا من داره ، وأهلا خيرا من أهله ، وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر، واجعل قبره روضة من رياض الجنة ، اللهم أنزل على قبره الضياء والنور والفسحة والسرور، اللهم أفسح له في قبره ونور له فيه برحمتك يا أرحم الرحمين.. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين .
وكتبه بقلمه أحد تلاميذ الشيخ :
محمد هارون العزيزي الندوي
إمام وخطيب وداعية وباحث شرعي بمركز اكتشف الإسلام مملكة البحرين .