المدارس الدينية عبر التاريخ

بقلم/ فضيلة الشيخ المفتي مبارك الله- مدير الجامعة الإسلامية اليونسية

التاريخ والتأسيس:

المدارس بدأت في الإسلام من المساجد، كان بجوار المسجد النبوي دهليز شهير مسمّى بـ"الصفة" يثابر فيها بعض أصحاب رسول الله ليل نهار، يطلبون العلم، يعرفهم التاريخ "بأهل الصفة" كان رسول الله إذا مسته حاجة إلى بعث معلم أو مبلغ إلى جهة ما يبعث من أهل الصفة، واهتمامه البليغ بالتعليم والتربية كان يثير أصحابه حرصا على العلم، يشهد له ما روي أنه عليه السلام خرج ذات يوم من بعض حجره فدخل المسجد فإذا هو بحلقتين: أحدهما يقرؤون القرآن ويدعون الله، والأخرى يتعلمون ويعلمون. فقال النبي : " كل على خير، هؤلاء يقرؤون القرآن ويدعون الله فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وهؤلاء يتعلّمون و إنما بُعِثْت معلّْما فجلس معهم" هكذا جرى التعليم والتعلم في المسجد إلى القرن الرابع الهجري، وأمّا الـمدارس الـمروّجة في العالم الراهن أسست في القرن الخامس الهجري، وأول من أسس مدرسة مروّجة ملك أفغان البطل المشهور "السلطان محمود الغزنوي" المتوفى 1030مـ -رحمه الله-، وذلك أنه بنى -السلطان محمود الغزنوي- مسجدا في "غزنة" عاصمة سلطته عام 1019مـ ؛ وكان المسجد يمتاز عن غيره نمنمة وزخرفة فعرف بين الناس بـ"عرس الفلك" (حجرة زفاف السماء) وبنى على شفاه عمارة للمدرسة، وأنشأ فيها مكتبة موفورة بالكتب النادرة ووقف على هذا المسجد والمدرسة ربوعا تكفي مؤنتهما، قال المؤرخ المشهور أبو القاسم الفرشته: ابتنى السلطان الغزنوي بجوار المسجد مدرسة في مكتبها رصيد ضخم من الكتب النادرة، وأوقف قطعات من الأرض إنفاقا عليهما (تاريخ دار العلوم ديوبند) ورغب الولاة والوزراء في تأسيس المدارس اتباعا لملكهم وسلوكا طريقه، ففي أيام قلائل قامت في "غزنة" وضواحيها مدارس بعدد لا تحصى، فلما توفّي السلطان محمود الغزنوي تمسك ابنه السلطان مسعود بن محمود الغزنوي بأسوة أبيه فبنى مدارس كثيرة، وجدير بالذكر أنه اشتهر على ألسنة الناس أن أولى المدارس هي التي أسسها في "بغداد" "نظام الملوك التوسي" المتوفى 1096مـ وليس الأمر كذلك.

المدارس في الهند:

قامت الحكومة المستقلة للمسلمين في الهند في غرة القرن السابع الهجري عام 1205 -1209مـ على عهد "قطب الدين أيبك"، فأسس حاكم "ملتان" نصير الدين كوباجا هناك مدرسة، ويشهد التاريخ أنه في ذلك الزمان كانت مدرستان: المدرسة المزية والمدرسة النصيرية، ثم في القرن الثامن بدأ تأسيس المدارس الدينية بشكل عام، فكان في عهد السلطان محمد "تغلق" (1324-1351) ألف مدرسة في "دهلي" فقط، وكانت تؤدّى الرواتب للمدرسين من بيت المال، فانتشر التعليم الإسلامي بشكل عام، فالإماء يحفظن القرآن الكريم ويتخرجن عالمات فما ظنّك بالحرائر؟ وكان يدرس في المدارس إلى جانب العلوم الدينية، المنطقُ الفلسة والحساب والجغرافية والفلكية، وما إلى ذلك من الفنون، وكانت المدراس آنذاك على الاستقلال الاقتصادي، فإنه إما يتولى الملك أمر المدرسة أو يوقف عليها من الحقول والعقار تكفي مؤنتها.

المدارس القومية وخليفة تأسيسها:

هبّ الغربيون يأتون الهند بغية التجارة، وجعلوا يتبوّؤونها، يتمكّنون ويستعمرون، احتلّوا كرسي الحكم لدنيا الهند سنة 1857مـ وخاضوا في قمع الإسلام والمسلمين، فأقفلوا المدارس وقبضوا الحقول والعقار وما إلى ذلك، وقتلوا آلافا من العلماء والطلاب حتى لا يوجد بعد استقراء وتتبع قريةبعد قرية رجل يعرف الكفن والدفن مكان ما يوجد قبل دهر في كل أسرة عالم متضلع متخصص، وأجروا منهجا جديدا للتعليم يمثل الثقافة الغربية المتعفّنة ويغيّر العقل ويفسده، فصار مسلمو الهند في صراع شديد في القرن الثالث عشر الهجري، وبالإضافة إلى أنه انهزم سكان الهند في نضال الحرية عام 1857 مـ فرآي قاسم النانوتوي وذو الفقار علي وفضل الرحمن والحاجي عابد حسين أنه لا يمكن أن تعاد الحرية بدون أن يُكَوَّن رجال متضلّعون من العلم، متبرئين عن ثقافة الإنكليز، جريئين فؤادا قويين إيمانا، فتركوا الحرب المسلّحة واتخذوا خطة إقامة المدرسة الدينية الغير الرسمية بشَكْل عام إلى أن أسسوا مدرسة في "ديوبند" في مديرية "سهران بور" بالهند، يعرفها العالم بدار العلوم ديوبند. والمؤسسات العلمية التي تقام اليوم باسم "المدارس القومية" مصدرها دار العلوم بديوبند، قد أسست اليوم على منوال ومنهج دار العلوم مؤسسات علمية كثيرة في نواحي العالم شرقا و غربا شمالا وجنوبا، فالمدارس القومية هي هيئة تعليمية دينية وطنية غير رسمية، قامت بتبرعات الشعب بإجراء الأمة المسلمة لنشر تعليم الإسلام وثقافته ولتجديدها، تخرّج علماء ربّانيّين يتّصلون بالله برباط قوي وإيمان متين صادرين عن معرفته الصادقة الواعية، وإنها منهل ومنبع تنبع منه العلوم و الفنون.

الخدمات الاجتماعية:

ولا مجال للإنكار أن العلماء قد نهضوا بخطوة عظيمة في بناء المجتمع المثالي: ولا يخفى على أحد أن للتربية يدا قوية في بناء المجتمع المثالي فإن المجتمع هو مجموع الناس وليس إلا. ولقد عجز التاريخ عن نظير المدارس القومية في بناء الرجال النبلاء، فإنها تمنع من حب الدنيا والشهوات الغريزية، كما تمنع من الخمر، وإشعال السيجارة وادّخانها، وركزت في ضمائرهم أن إثمها أكبر من نفعها، إلى جانب أنها تعين على نوائب الحق من الفيضان والكوارث الطبيعية، كما يشهد له التاريخ. بل جعل العلماء حقا واقعا في بناء المجتمع ما يراه غيرهم محالة. حيث قاد العلماء في حرب الحرية للهند من الإنكليزيين، وكذا اتخذوا خطوة كبيرة في حرية باكستان من الهند، فأول من أعلى راية الحرية لباكستان الغربية هو العلامة شبير أحمد العثماني ولباكستان الشرقية هو العلامة ظفر أحمد العثماني.

اترك تعليقاً