الأستاذ أبو بكر
هذا رجل لايكفي للحديث عنه مقالةٌ، ولارسالة، لأن له في مظهر من مظاهر الحياة في بقع بنغلاديش أثرا بليغا، وفي كل ناحية من نواحي الإصلاح عملا؛ ولأنه داعٍ الأمةَ المسلمة إلى تجديد إسلامهم وتقوية إيمانهم، وتحلية أنفسهم بإيمان السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وداعٍ أيضا إياهم إلى الزمن الإسلامي الذهبي: زمنِ الخلافة الراشدة، وإلى تحقيق آثار تلك الخلافة في نواحي حياتهم؛ ولأنه كان معلما لجيل إثر جيل، رائداً لطوائف الشبان من العلماء والصحين الذين يحملون الروح الإيمانية؛ ولأنه باعث نهضة: كان هلالَ نهضةٍ سياسية إسلامية في بلاد بنغلاديش، وهذه النهضة انبثقت أنوارها وانبعثت من بنغلاديش- ساحلها وداخلها -حتى ملأت دنيَاشبهِ القارة الهندية، وكانت هذه نهضةً إسلامية: نهْضةَ إعلاء راية الإسلام، نهضة إنارة كل مكان بنور الإيمان.
على ذلك كله كان ينهض لإنقاذ الأمة من الانحطاط ولإصلاح المجتمع، وكاد ييأس المصلحون ولكن الشيخ لم ييأس ولم يَر مستحيلاً إصلاحهم... وكان تضلّع من العلم كثيرًا، فكان يُعدّ من أساطين العلماء في داخل البلاد وخارجها.
لقد اشتقتَ – ياقارئ الكريم – إلى أن نسميه !
هو الشيخ المرشد المصلح السياسي العظيم محمد الله- رحمه الله- رئيس الحزب الموسوم "بحركة الخلافة الإسلامية (إسلامي خلافت أندولن)"
لقد عرفتَ رجالا، وسمعت برجال كانوا أعلم علما وآدب أدبا، وأعظم جاها، وكانوا أعظم اسما وأبعد ذكرا من الشيخ محمد الله، ولكن للشيخ عدة مزايا
لم يكن مثلها-فيما أعلم- لواحد منهم... تزين بالنبل والسيادة، وتسلح قلبه بالخشوع لله، وبالزهد في الدنيا والقناعة بمافي يده، وتصبغت روحه بصبغة الإخلاص وطلب مرضاة الرب الجليل.
****
لقد سلك في طلب العلم كل سبيل؛ وبذل لحصوله كلَّ جهد، لم يتعود التاريخُ أن يشهد مثل ذلك إلا قليلا؛ ولاريب أنك تودُّ أن تقف على صورة من صور حياته الدراسية وجهوده المضروبة بالأمثال؛ فإليك صورة منها:
((في عنفوان شبابه همَّ أن يجمع القرآن الكريم ويحفظه؛ ونبأ إليه خبر: أن في باني بت- منطقة مشهور بشمال الهند- مدرسةً يعلَّم فيها التلاميذ القرآن الكريم بجد وجودة، فهمَّ بها وهي على بعد كبير من بيته، ولايعرف طريقها جيدًا، ولاتتصوَّر وقتئذ جودةُ الوسائل للمواصلات.
فما أقوى عزائمه وما أعلى هِممه!
خرج في حداثة سنه إلى باني بت، وطريقها تستغرق ألوفا من الأميال؛ ففي الطريق إليها وقف في وادية أياما.... بينا كان في تلك الوادية إذ قُدِّر أن يعقره كلبٌ عقور، فأُصيب بوجع شديد، حتى ذات مرة سقط في الأرض فاقدَ الوعي، فأخذه الناس إلى طبيب؛ انصرمت عليه أيام ولم يعُدْ إلى البرءة كاملا، فعز مواعلى أخذه إلى مستشفى دهلي الذي يُعالَج فيه بمستوى عالٍ؛ ومن ذلك حملوه في قطار إلى دهلي.
القطار يمشي والفتى محمد الله يصرم وقته يصارع الوجع، فتارة يصعق، وأخرىٰ يفيق، وهو يفكر حينما يدرك الوعِىَ في همِّه الجليل (وهو حضورُه في تلكَ المدرسة ببانى بت)، بينما كان كذلك إذ شعر بوقوف القطار بمحطة باني بت في الطريق إلى دهلي، على حين ذهبت عنه الكلف وبرقت في وجهه الأساريرُ، ونسي حديثَ المستشفى ومابه من الوجع والأذى، فأسرع إلى النـزول، كأنما لم يمسه أي وجع وداء قطّ.
فياهمته العالية وشوقه العميق! أنساه المرض، كأنما أعاده إلى الصحة والبرءة...
***
يضم بين جنبيه الهممَ العُليا التي خففتْ عليه أن يتصبر على طائفة من الغُصَصِ والكُلَف في سبيل الحصول على العلم، والتي شجعته أن يذهب كل مذهب سعيا وراء العلم وأن يفد إلى شتى المدارس والمؤسسات؛ وفي الأخير تحصن بظلال دارالعلوم ديوبند، وأراح بذلك قلبَه عن الهموم في الدراسة العليا، فنهل من منهل دارالعلوم، حتى ارتوى.
وزيادةً على ذلك كان له ذوق كثيف في نيل من غوامص علم الإحسان، فيمَّم وجهَه تجاه الشيخ حكيم الأمة أشرف علي التهانوي واطمأنّ إليه؛ فأصبح يأخذ عنه الدروسَ ويزيِّن نفسَه بتعاليمه؛ ولم يمر على ذلك إلا أيام حتى شرَّفه شيخُه بكسو عمامة الخلافة والإجازة، ممارأى فيه موهبة حافلة واجتهادًا بليغا.
****
أكمل الدراسة العليا وتخرج في دار العلوم على أيدي الأحبار الأفذاذ في العلم والعمل كأمثال الكشميري والشيخ إعزاز علي ومن إليهما من هؤلاء.
قدملأ صدره بنور العلم، وأناره بنور العمل وربط عنان العزم بنشر العلم تعليما وتدريسا في المدارس الأهلية، ومن هنا قدم على الجامعة الإسلامية اليونسية مع صاحبيه: الشيخ شمس الحق الفريدبوري والشيخ عبد الوهاب البرجى.
اخذ يدرِّس ويصنع التلاميذَ رجالا كاملة رجولتُهم، ويصوغهم على صياغة العلم والدين، ويجعلهم متبعين لسنة النبي صلى الله عليه وسلم في كل أمورهم.
ولكن الشخ ماطابت له الحياة في صفحة برهمن باريا لمدة طويلة، فأقام بها أربع سنين كوامل، ثم ارتحل إلى داكا، وتوطنها ومعه ذانك الصاحبان.
*****
لقد هز الشيخ في أرض بنغلاديش هزة لم تعرفها ساحة السياسة قبلُ، صرخت في أغوار البلاد بصرخة الإيمان... رأى تخلف العلماء عن رحاب السياسة الإسلامية وتخلَّفهم عن عمليات الحكومة، ورأى أن إقامة الإسلام على وجه هذه الأرض بدون احتلال الكراسي الحكمية أمر صعب، فظل يفكر في تيسيره، فهمّ بالانتخاب البرلماني، حتى شارك في الإنتخاب الرئيسي في البلاد.
وضع حزبًا باسم "حركة الخلافة الإسلامية" يجمع أساطين العلماء وكثيرا من عرفاء الأقوام، تحقيقا لرسالته: إقامة الحكم الإسلامي في البلاد، ودفاعًا عن الإسلام والمسلمين. وهذا الحزب ظل يقوم بنشاطات إسلامية لإعلاء راية الإسلام وللدفاع عنه من أول وهلة حتى اليوم.
هذا، والشيخ قام- عدا ذلك- بكثير من الخدمات، مثل تأسيس المعاهد والمدارس والكتاتيب الدينية في مختلف الأماكن في البلاد، وذلك لنشر العلوم الدينية في الأقطار، ولنشر العقائد الصحيحة في المجتمع. وهذه الخدمات الجليلة والبرامج الفائقة جعلته محبوبا عند كافة الناس وجعلت اسمه خالدا فيهم على مرّ الزمَن من وفاته عام
جزاه الله عنا وعن المسلمين جميعا بما هو أهله.