فضيلة الأستاذ الشيخ إدريس السنديفي البنغلاديشي رحمه الله

مؤسس جامعة دار العلوم مدني نغر، من أكابر علماء بنغلاديش

الشيخ إدريس البنغلاديشي الملقب بـ"مصلح الأمة"، هو الشخصية الذي ذاع صيته شرقاً وغرباً في البلاد، واعترف بفضله القاصي والداني، وأثنى عليه السابقون واللاحقون والمحْدَثون، إنه الإمام الأكبر ركن من أركان الدين في الدولة، وهو كان ذا شخصية ضخمة، بارزا من الأبراز، مثلا من الأمثال، علما من الأعلام، رجلا من الرجال الذين بذلوا قصارى جهودهم في سبيل الدعوة و الإرشاد، و ميدان التدريس والتعليم، و في ساحة الإحسان و التزكية، و مجال إصلاح المجتمع، وقمع البدع و الخرافات، و استئصال الفرق الباطلة الضالة المضلة، و تأسيس المدارس الإسلامية الأهلية، ونشر عقائد الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، و كان يعيش هموم دعوته وهموم أمته، كانت الدعوه شغله الشاغل وكان ورعًا دائم العبادة، شديد الاحتياط مبالغًا فيه.

ولادته:

بات ينشأ طفل في حجر أمه، اسمها سيدة النساء تحت جناح الرحمة، تحت ظل أسرة ذات حسب ونسب، يرعاها رجل نبيل لبيب، اسمه المنشي عبد الغني -وهو أبو الطفل-، و كان له سبعة بنين و بنت واحدة، فأبوه مع آخرين في الأسرة دعوه بـ"إدريس" -وهو أصغرهم سنا- متطلعا إلى أن يكلل في المستقبل تاج الشرف والكرامة - وقد أكمل الله أمنيته هذه-، وتلك منذ وضعت أمه حملها عام أحد و ثلاثين و تسع مأة وألف الميلادي، في قرية »سنتوس بور« إحدى القرى الجامعة في جزيرة »سنديف« من جزائر خليج بنغال من مديرية »شيتاغونغ« من بنغلاديش.

حياته الدراسية:

تلقى الدراسة الابتدائية في مسقط رأسه »سنتوس بور«، درس بضع سنين في المدارس الابتدائية الحكومية في قريته و القرية المجاورة لها، منها مدرسة منشيرهات الابتدائية بسنديف، ثم التحق بمدرسة »كريم باري« للدراسة المتوسطة، و أتم الدراسة المتوسطة بمدرسة في سنديف كانت تسمى »المدرسة البشرية و الأحمدية العليا«، وقد خطف المنون أبويه وهو يدرس، احتسب الشيخ رحمه الله والديه، و لم يثبط همته لأجل ذلك، فتقدم في سبيل العلم، و التحق بـ»المدرسة الإسلامية« بمديرية »نواخالي« ليتلقى الدراسة الثانوية، و أكمل دراسته هناك بكل نجاح وتقدير، ثم سافر للحصول على الدراسات العليا في الشريعة إلى أم المدارس الإسلامية الأهلية في شبه القارة الهندية :الجامعه الاسلاميه دار العلوم ديوبند بالهند فتخرج فيها عام١٣٧٥هـ بعد أن تلقى العلم فيها طوال أربع سنوات.

ومن أساتذته في الهند:

)١( شيخ العرب والعجم حسين أحمد المدني رحمه الله تعالى )٢( شيخ الأدب العلامة إعزاز علي رحمه الله تعالى )٣( شيخ المعقول والمنقول العلامة إبراهيم البلياوي رحمه الله تعالى )٤( السيد فخر الحسن رحمه الله تعالى )٥( الشيخ العلامة المقرئ طيب رحمه الله تعالى )٦( الشيخ أحمد حسين البخاري رحمه الله تعالى )٧( الشيخ معراج الحق رحمه الله تعالى )٨( الشيخ ناصر خان رحمه الله تعالى )٩( الشيخ نعيم رحمه الله تعالى

وفي بنغلاديش:

)١( معلم صباه الشيخ نور الإسلام رحمه الله تعالى )٢( إمام النحو و الصرف السيد أحمد رحمه الله تعالى إلى غيرهم من الأساتذة.

ومن تلاميذه:

)١( شيخ الحديث العلامة زكريا رحمه الله تعالى )٢( شيخ الحديث العلامة كمال الدين لك لكهي فوري حفظه الله تعالى )٣( الشيخ أنس بهولاوي حفظه الله تعالى )٤( الشيخ عبد الخالق حفظه الله تعالى )٥( الشيخ ميزان سنديفي حفظه الله تعالى )٦( الشيخ عبد المنان سنديفي حفظه الله تعالى )٧( الشيخ كفاية الله سنديفي حفظه الله تعالى )٨( الشيخ عبد الباري سنديفي حفظه الله تعالى و غيرهم.

التصوف و تزكية النفوس الضالة عن الصراط المستقيم:

والشيخ إدريس رحمه الله تعالى هذا لم يوسع مجاله العلمي فحسب؛ بل توجه على وجه سوي نحو تزكية نفسه والتشرب من كأس دهاق من رحيق الإحسان و السلوك، فقصد الشيخ حسين أحمد المدني المعروف بشيخ الإسلام في شبه القارة الهندية، فبايعه وتلقى منه دروسا، و أنشأ يجاهد في أمله، فلم يأت على ذلك أمد كبير، حتى عممه شيخه عمامة الخلافة.

حياته العملية:

رجع الشيخ إلى وطنه »سنديف« بعد ما قضى خارج البلاد ست سنوات في سبيل العلم و الإحسان؛ أربع سنوات في دار العلوم ديوبند، وسنتين مع شيخه المدني في حضره و سفره، ولم يزر بيته خلال هذه السنوات الست مرة!

لقد كان حياته رحمه الله تعالى حياة مثالية يحتذى بها، حياة حافلة بجلائل الأعمال، و هي أعمال قلما يوفق لها شخص واحد لا سيما في هذا العصر المتأخر.

يمكن لنا أن نصف أعمال الشيخ رحمه الله تعالى وخدماته إلى ثلاثه أصناف، و هي:١. الدعوة٢. التعليم٣. الإحسان، فكانت جهوده في فجر الحياة إلى أن استأثرته رحمة الله تعالى مركزة على هذه الأمور الثلاثة، وكان له زوجان و سبعة بنين و أربع بنات.

دوره في قمه البدع و الخرافات و في نشر التوحيد الخالص:

في قمع البدع و الخرافات لعب دورا مهما، سافر بنفسه إلى معظم المديريات و مخافر الشرطة في البلاد، كان يحتمل في بعض هذه الأسفار شدائد غريبة تذكر قصص الأولين، فقد قام الشيخ أحسن قيام بالرد على أهل القبور وغيرهم من الفرق الضالة مفسدة.

و في نشر التوحيد الخالص له دور عظيم، كانت تنعقد تحت إشرافه اجتماعات دينية في فترات مختلفة من السنة في أكثر مديريات البلاد، بالإضافة إلى الاجتماع المنعقد في يوم الجمعة الأول من كل شهر ميلادي في جامع »جامعه دار العلوم مدني نغر بنراين غانج«، والذي كان يساهم فيه جم غفير من المسلمين القانطين في عاصمة داكا والمديريات المجاورة لها، أضف إلى هذه الاجتماع السنوي على النطاق المركزي في ساحه 'دار العلوم مدني نغر' الذي يستمر إلى ثلاثه أيام، كان يشهد عامه المسلمين في طول البلاد وعرضها فكان كل واحد يحاول أن ينتهز هذه الفرصة ويزوره في هذه المناسبة.

دوره في إحياء العلوم و نشرها ومؤلفاته:

بذل جهوده الجبارة على وجه متواصل هدفاً إلى أن يعم التعليم الصحيح كل قريه من قرى البلاد، أسس تحقيقا لهذا الهدف بالإضافة إلى »المدرسة الحسينية قاسم العلوم سنتوس بور« و »الجامعة الإسلامية« بمديرية »نرسندي« و »الجامعة العثمانية حسين آباد راج شاهي« و »الجامعة الإسلامية إسلام بور« و»الجامعة الفاروقية شير بور« و »الجامعة الإسلامية دار العلوم مدني نغر بنراىٔن غنج« أكثر من مأة مدرسة في أنحاء بنغلاديش، كما أسس لتنسيق جميع هذه المدارس جمعية مستقلة باسم »هيئة المدارس الأهلية العربية بنغلاديش«، تنعقد تحت إشراف هذه الجمعية الامتحانات المركزية لشتى المراحل، كما أنها تسهر على أحلام وآلام المدارس،

سافر إلى »أمريكا« مرتين، وضع الحجر الأساسي لمدرسة في »نيويورك«، وألقى الشيخ في مساجد و مجالس مختلفة كلمته كضيف رئيسي، هذا في المرة الأولى، وزار سنة١٩٩٥ مرة أخرى الولايات المتحدة الأمريكية، و اشترى للمدرسة التي أسسها سنة١٩٩١ عقارها الخاص، ثم نقل المدرسة إليه،

وهكذا فإن الشيخ أقام مدارس دينية ومبان شيدت علي أحسن الطراز، شامخة البنيان في دولة الكفر، يتلقى فيها اليوم مئات من أبناء المسلمين العلوم الإسلامية، و قد ألف كتابا سماه »راه سالكين «دليل السالكين على درب التقوى و الصلاح.

دوره في استعاذة مجد المسلمين الغابر:

كان الارشاد و نشر الدعوة الإسلامية جزءا أكبرا من رسالة الشيخ رحمه الله تعالي، فإن للدعوة دوراً كبيراً في إصلاح عقائد و أعمال المسلمين، فكان الشيخ يأمر أتباعه دائما أن يتابعوا الخروج في سبيل الدعوة و الإرشاد، كما كان يحرض طلاب ومدرسي كل مدرسة على المساهمة في هذا العمل الشريف، في الإجازات المختلفة بصفة عامة و في إجازة شهر رمضان بصفة خاصة، نشر بمساعيه المكثفة و تضحياته الكبيرة رسالة الدعوة إلى الله في أرجاء بنغلاديش.

سافر الشيخ بعد ما أسس مدرسته في »سنتوس بور« إلى باكستان سنة١٩٦٧م، خرج من مركز الدعوة هنالك »راي بيند« في سبيل الدعوة والإرشاد لمدة ستة أشهر مع كبار رجال الدعوة بمن فيهم مسؤول الجماعة الداعية الكبير الشيخ يوسف الكاندهلوي مؤلف »حياة الصحابة « رحمه الله تعالى، والشيخ إنعام الحسن رحمه الله تعالى، قضى الأشهر الأربعة الأولى في باكستان، و الشهرين في المملكة العربية السعودية، أدى خلال هذه الزيارة فريضة حج البيت العقيق -زاده الله شرفا و مجدا-، وكان ذلك أول حج تشرف به شيخنا، ثم حج للمرة الثانية سنة١٩٧٨م مع كبار رجال الدعوة في بنغلاديش، بمن فيهم فضيلة الشيخ الداعية الكبير لطف الرحمن رحمه الله تعالى، كما أنه سافر إلى »لندن« و »أمريكا« و »كندا« سنة١٩٩١م، ألقى أولا في كثير من مساجد و مجالس اسلامية في »لندن« كلمته، رحب به مسلمو »لندن« وقدموا إليه و طلبوا زيارته هنالك مرة بعد مرة.

من جانب آخر أسس في آخر عمره جمعية باسم »الجمعية الإسلامية الخيرية« هدفاً إلي أن تجري وتستمر بانتظام جميع نشاطاته تحت إشراف هذه الجمعية، يشرف الآن على هذه الجمعية الحافظ عنايت الله الموقر نجله الثاني.

سطور عن ورعه وتقواه و خلقه:

كلما كانت تعرض على الشيخ مشكلة تعانيها مدرسة من مدارسه أو حاجة لها يجب أن تسد، كان يحل تلك المشكلة و يقضي تلك الحاجة بشكل غريب بإذن الله تعالى، و كان يجلس إليه رجل و يتكلم معه فينة، فكان يلمس في قلبه الطمأنينة ما لا يستطيع أن يعبر عنه وكان يمتلئ قلبه الخالي بسعادة.

وفي هذا الصدد قصص عجيبة:

منها: وقع سوق باسم »أكبر هات« بعيدا من مدرسة سنتوس بور ميلا، لما نفقت السوق احتشد هناك ما يقرب من عشرة آلاف رجل، ومن جهة أخرى تم الإعلان من لجنة السوق أن تجري مباراة الجاموس في الميدان الذي يقع بجانب المدرسة، وأمر الشيخ المعلمين والطلاب بالدعاء عليها حينما بلغه هذا الخبر، وفي اليوم الموعود قبيل انعقاد مباراه الجاموس نطح جاموس بقرنه جاموسا آخر نطحا، فلقي مصرعه في مسرع الحادثه، و الفريق المقابل ضربوا الجاموس الناطح ضربا مشبعا، حتى لقي حتفه هو الآخر انتقاما منه ولم تنعقد المباراه مآلا، و الذين نظموا هذه لتنفيذ أغراضهم الخبيثة استسمحوا الشيخ فسامحهم.

ومنها: ذات يوم تم إصدار القرار بتنظيم حفلة "الآوبرا الغناىٔية" في تلك السوق، حتى تستمر إلي سبعه أيام، فلجأ الشيخ أولا إلى الحكومة المحلية، حينما علمته أسفرت عن عجزهم عن إيقافها! فأمر الأساتذة و التلاميذ بالدعاء عليه - واستدعى متخذي قرارها في اليوم الثاني من الحفلة الغنائية، فأجابوا وجاؤوا إلى الشيخ، و أعلن جل متخذي القرار على إيقافها و لكن خالف بعضهم، وقالوا: أيها الشيخ! اسمح لنا فتستمر الحفلة لهذا اليوم فقط؟ فقال: لم أتمكن من الإذن لهذا، فافعلوا ما شئتم، لو حدث أمر فعليكم. ثم عادوا وبدأت تغني فرقه الآوبرا غناء معجبا مطربا؛ كان الوقت العاشرة ليلاً، عند ذلك بدأ يتم إلقاء الحجر والحصى عليهم من أمكنة مجهولة، و ظل المتواجدون يجرون من هنا إلى هناك، لكن من ألقى الحجر و الحصى؟ لم يعلم وقتىٔذ كما لا يعلم اليوم! أخيرا وقفت من إلقاء الحجر و الحصى تواصلا، ومن الجدير بالذكر أن حفلة الغناء لم تنعقد في »سنديف« من ذلك اليوم بعد بفضل الله تعالى و منه و كرمه.

مزاياه:

كان يقبل قراره دون أي تنازع أهل المنطقة ورجال السياسة و العلماء جميعا، ومن مزاياه أنه كان لا يصلي إلا يدرك تكبيرة التحريم في جماعة الساجدين. إن الهواية الكبرى للشيخ هي النظافة، وكان حساسا فعندما بدأ يؤسس مدرسة فأول ما نظم من دورة المياه و المورد.

مكونات حياته:

تمثل تلقيه »كريمان« و »غلستان« لصاحبهما الشيخ شهاب الدين السعدي على عهد صباه في جميع شؤون حياته كلها على ما قاله علماء الشريعة في زمانه.

وفاته:

تطلع الشمس صباحا و تجري طوال اليوم تفيد الخلق وتخدمهم بأشعتها الذهبية، وفي العصر تميل إلى الغروب، كذلك الشيخ إدريس رحمه الله تعالى وصل إلى نهاية مطاف الحياة بعد أن قام بالخدمات الجليلة التي ذكرت أعلاها، في العشرين من رمضان١٤٢٣هـ في تمام الساعة الثامنة وخمسين دقيقة صباحا، عن عمر يناهز٧٣ عاما الموافق للسادس والعشرين من نوفمبر لسنه٢٠٠٢م، نال دعوة ربه وكان متهيئا تماما للرحلة إليه، فقد شهد الحاضرون في مستشفى »سهراوردي« بـ »داكا« أن وجهه قبل الوفاة كان يزال يزيد حسنه و بهاؤه و غشيت وجهه سحابة من النور.

في الساعة العاشرة من ليلة العشرين صلى عليه بالناس نجله الأكبر فضيلة الشيخ فيض الله ادريس السنديفي حفظه الله، شهد جنازته زهاء خمسين ألف مأة بمن فيهم العلماء الكبار وقادة البلاد و زعماء مختلف الأحزاب السياسية، ومعلمو وطلاب المدارس الإسلامية، وعامة المسلمين الذين على رأسهم: السادة »شيخ الحديث« رحمه الله وغيرهم. فقد كان طير نعيه عن طريق الإذاعة والتلفاز والهاتف وما إليها من وسائل المواصلات، فتساقط الناس عليه تساقط الفراش على النور، يحنون أن يلقوا عليه نظرة أخيرة قبل أن يوري في التراب.

دفن في ساحة ذكراه الكبرى الجامعة الإسلامية دار العلوم مدني نغر بنراىٔن غنج، أنزل الله على قبره شآبيب رحمته، ورزقنا جميعا الصبر و السلوان واتباع سيرته. آمين.

اترك تعليقاً