الإبادة الجماعية وروح المقاومة في كشمير

فرحان مجاهد شاك، أستاذ مشارك في العلوم السياسية بجامعة قطر

إن مما يهيّج مشاعر التمرد على الطغيان أنه يستنهض النفس البشرية إلى الدرجة التي تجبرنا على مقاومته. ولعل فكرة الضيم تنفذ بشكل غريزي إلى صميم حالتنا الإنسانية التي تتشكل من تجاربنا وعواطفنا واحتياجاتنا كبشر. إن السينما والموسيقى والفن والأدب جميعها تحتفي بأولئك الذين يقاومون بإرادة لا تُقهر كلَّ الصعوبات، ويتحدّون الظلم والعسف.

ومع ذلك فإن النصر ليس سهل المنال؛ فطوال حقب التاريخ سيجد المرء أدلة لا حصر لها تثبت أن النصر يتأتى بروح المقاومة. فالكاتب الإنجليزي جورج أورويل يمتدح -في قصته القصيرة "مزرعة الحيوان" المثيرة للعواطف- تلك الروح ويحمل على الطغيان.

يقول في تلك القصة: أليس من الواضح تماما -أيها الرفاق- أن كل الشرور في حياتنا هذه تنبع من استبداد البشر؟ تخلصوا من ابن آدم وستكون ثمرات كدحنا ملكا خالصا لنا... فما الذي يتعين علينا فعله إذن؟ لذا علينا العمل -ليلا ونهارا بالروح والجسد- من أجل الإطاحة بالعنصر البشري! هذه هي رسالتي إليكم أيها الرفاق، ألا وهي العصيان"!

فعند أورويل، لا بد من مقاومة القهر. ذلك أن الرضوخ والإذعان لن يؤدي إلا إلى إطالة أمد المعاناة، ومن ثم لا ينبغي التردد في اتخاذ القرار بشأنها. وانطلاقا من هذه الفكرة؛ علينا النظر إلى مشروع الهند للاستيطان الاستعماري وقرارها الأحادي وغير المشروع ولا الديمقراطي بإنهاء وضع الحكم الذاتي لإقليم كشمير، وإلغائها المادة (307) من الدستور الهندي.

لقد انتقدت منظمات غير حكومية عبر العالم -مثل العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش- بشدة الهند على ذلك القرار، وعقد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة مؤخرا جلسة طارئة -هي الأولى له في ظرف خمسين عاما- لبحث الوضع المتردي في كشمير، داعيا إلى احترام قرارات المنظمة الدولية ذات الصلة بالموضوع.

وقد أعرب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش على وجه التحديد عن القلق إزاء وضع حقوق الإنسان الحالي، بينما وصف مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بحرية التعبير ديفد كاي الوضع في كشمير بأنه "شديد القسوة".

على أن المُرعب حقا هو أن منظمة "جينوسايد ووتش" غير الحكومية أصدرت تحذيرا من احتمال وقوع مذبحة في كشمير على نحو غير مسبوق. جاء ذلك على خلفية استخدام رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي وزعماء حزب بهاراتيا جاناتا (بي جي بي) الآخرين بشكل صارخ لمصطلح "الحل النهائي" المشوَّه لكشمير.

وحددت منظمة "جينوسايد ووتش" عشرة أطوار لعملية الإبادة الجماعية، وهي التي تتجسد جميعها الآن في كشمير، لا سيما عند النظر إلى الهجمة الشرسة التي تشنها الهند حاليا على الحريات المدنية في الشطر الواقع تحت سيطرتها من الإقليم، لترويع سكانه وحرمانهم من كافة قنوات الاتصال، والاستخفاف بالقوانين والأعراف الدولية، وارتكاب سلسلة من انتهاكات حقوق الإنسان.

وأول تلك الأطوار يكمن في تفشي استخدام الثنائية القاسية المتمثلة في لفظة ’نحن‘ مقابل لفظة ’هم‘. وعندما يتعلق الأمر بكشمير؛ تترجم الدولة الهندية كلمة "نحن" على أساس أنها تعني مؤيدي جيشها/قوات الاحتلال، بينما تقصد بكلمة "هم" المسلمين الكشميريين.

وبطبيعة الحال؛ فإن التدابير الوقائية تشمل تعزيز المؤسسات العمومية التي تتجاوز التصنيفات العرقية والعنصرية وتشجع الاندماج. ولعل هذا بالضبط ما لا يريده حزب بهاراتيا جاناتا الفاشي؛ فهو يرغب في الترويج لخطر الإرهاب الوهمي لتبرير عمليات الاضطهاد التي يضطلع بها.

وثانيها هو التعبير بالرموز أو الترميز. والرموز عندما ترتبط بكراهية متأصلة تُدمغ قسرا على أفراد جماعة منبوذة، مثل الوشاح الأزرق الذي يرمز للمنحدرين من المنطقة الشرقية إبان نظام حكم الخمير الحمر في كمبوديا، أو لغة المسلمين الكشميريين وأزيائهم المميزة وبطاقات هوياتهم التي تشير إلى ديانتهم.

وثالثها التمييز الواضح الذي يدفع بمشروع الإبادة الجماعية إلى الأمام، حيث تستغل المجموعة المهيمنة القانون والعادات والسلطة السياسية لحرمان المسلمين الكشميريين من حقوقهم الأساسية. ووراء هذا التمييز أيديولوجية إقصائية وإباحةٌ لإلحاق الأذى بالمسلمين الكشميريين، عبر نعتهم بأوصاف من قبيل "انفصالي" و"متطرف" و"إرهابي".

ورابعها أن التحيز والتحامل وعدم التمكين بنسب مرتفعة يفضي إلى مرحلة ’الانتقاص من آدمية الإنسان‘، التي تعيق قدرة الإنسان العادي على النفور من ارتكاب جريمة قتل.

وفي هذه المرحلة؛ تُستغل الصحف والإذاعات ووسائل التواصل الاجتماعي في الحض على الكراهية والتشنيع بالمسلمين الكشميريين رغم أنهم الضحايا، حتى إنها أُدرجت في المناهج الدراسية بمؤسسات التعليم الهندوسية.

وخامسها أن الظاهرة البشعة المتمثلة في الإبادة الجماعية تتسم دوما بحسن التخطيط وتتطلب "تنظيما" جامعا. وتضطلع الدولة الهندية بهذا الدور؛ حيث تستعين بالمليشيات الهندوسية لتوفير ذريعة لها لإنكار أي مسؤولية عنها.

ومن بين هذه المليشيات دهماء هندوس يقودهم مسلحون محليون ينتمون لمنظمة "راشتريا سوايامسيفاك سانغ" المعروفة اختصارا باسم (آر أس أس)، ويتنكرون في بزّات عسكرية، ويشكلون قوام 38 ألف جندي إضافي أرسلتهم الدولة إلى كشمير. وللتذكير؛ فإن نحو 700 ألف جندي تقريبا من الجيش الهندي المدججين بأسلحة ثقيلة موجودون أصلا في كشمير؛ فما الداعي لإرسال المزيد؟

وسادس أطوار الإبادة الجماعية أن المتطرفين يلجؤون عادة إلى الاستقطاب كوسيلة للتفريق بين الطوائف. وفي سبيل ذلك؛ تبثّ الجماعات رسائل استقطابية تحض على الكراهية، وقد تحظر القوانينُ التزاوجَ بين المجموعات المختلفة أو التواصل الاجتماعي فيما بينها.

ويستهدف المتطرفون القوميون الهندوس المعتدلين من جميع الديانات/الخلفيات، مستخدمين الترهيب وسيلة لتهديد المركز وضمان سكوته عما يرتكبونه من أفعال. ولعل أكثر الناس قدرة على وقف الإبادة الجماعية هم المعتدلون التابعون لمجموعة الجناة نفسها. ولهذا السبب؛ فإن كل من سبق له التعامل مع الدولة الهندية هو الآن رهن الاعتقال، بمن فيهم فاروق عبد الله وعمر عبد الله ومحبوبة مفتي.

وسابعها هي مرحلة "التمهيد"؛ فقد ظل قادة حزب بهاراتيا جاناتا (الحاكم) يتحدثون بلهجة تقشعر لها الأبدان عن "الحل النهائي"، وهو تعبير ملطَّف يستخدمونه للتستر على نواياهم لارتكاب مجازر وأعمال تطهير عرقي.

وثامنها هو الظلم والعسف الذي يتفاقم مع تقدم مراحل الإبادة الجماعية. وفي هذا الطور؛ تتعرض حقوق الإنسان الأساسية الخاصة بالضحايا للانتهاك بشكل منظم، عبر عمليات القتل خارج نطاق القضاء، والاغتصاب والتعذيب والنزوح القسري. وتُعد قوائم بالمستهدفين بالقتل وتُصادر الممتلكات. والمسلمون الكشميريون محاصرون الآن ومعرضون للاعتقال التعسفي والتنكيل والاغتصاب والقتل.

وتاسعها هو الطور الذي يبدأ فيه الاستئصال وما يلبث أن يصبح قتلا جماعيا، أو ما يُعرف في الاصطلاح القانوني بـ"الإبادة الجماعية". وفي هذه المرحلة المخيفة؛ تتعاون القوات المسلحة مع مليشيات (آر أس أس) شبه العسكرية للقيام بأعمال القتل.

وعاشرها هو الطور النهائي المتمثل في التنصل من كل الأفعال التي تتم طوال عملية الإبادة الجماعية. وفي هذه المرحلة؛ يقوم الجناة بحفر قبور جماعية لدفن ضحايا جرائمهم وحرق الجثث، ومحاولة طمس الأدلة وترهيب شهود العيان.

في الحكومة الهندية؛ يزعمون طوال الوقت أن كل الأمور تجري بشكل عادي في كشمير. وقد بلغ الإنكار في كشمير حداً يثير الضحك حتى إن رئيس الوزراء ناريندرا مودي وحزبه بهاراتيا جاناتا يقولون إنهم يهدفون إلى "تحقيق الازدهار والتنمية" و"وضع حد للإرهاب".

على أن أكثر ما يدعو للقلق هو أن الهند تعلن للعالم أنها بدأت تخفيف القيود التي فرضتها على خدمات الاتصال تدريجيا، وهذا محض هراء. إن هذا الخطاب الجبان حول تخفيف مخادع للحصار تستغله الهند لصرف انتباه العالم عما يجري في كشمير.

ولا يزال انقطاع خدمات الإنترنت وخدمات الهاتف الأرضي والاتصالات مستمرا بشكل كامل في كشمير. وهناك نُذُر بأن ثمة شرا مستطيرا قادما، وهو احتمال وارد بحدوث إبادة جماعية هناك.

ورغم المشاهد الفظيعة للموت والخراب واليأس والقنوط؛ فإن روح التمرد والعصيان أكسبت الكشميريين الجرأة، إذ لم يعد أمامهم -في حقيقة الأمر- من خيار آخر. ولا بد لهم أن يتحدوا في مواجهة عدو منفلت لا يرحم.

وكما كتب أورويل فإنه "لا بد أن يكون بيننا -نحن الحيوانات- اتفاق تام، ورفقة مثالية في الكفاح. كل البشر أعداؤنا. وجميع الحيوانات رفاقنا". ومع ذلك؛ فهناك دوما محاولات تهدف إلى شق الإجماع والنيل من المقاومة. وتساءل أورويل في روايته "مزرعة الحيوان" قائلا: "هل الفئران رفاقنا؟" ويجيب: "إن التصويت أُجري للتو، وقد تمت الموافقة بأغلبية ساحقة على أن الفئران هم رفاق لنا".

وبالمثل؛ فإن قبائل البكروال والغوجار والبيهاريين والباكريين والشير والسيخ والبانديت والسنة والشيعة -وجميعهم كشميريون- يقفون يدا واحدة ضد الاستبداد والظلم.

المصدر : الجزيرة

اترك تعليقاً