بقلم : خويدمه وتلميذه سعيد أحمد القاسمي.
هوالعالم العامل التقي الورع العارف بالله الشيخ المحدث المفسر العلامة النظارة المحقق المدقق، شيخنا العلامة الكبير، مرجع أهل العلم والفضل، خادم الحديث النبوي الشريف في شتى الجامعات، شيخ الحديث، مولانا زكريا السنديفي القاسمي.
#ولادته :
طلع هذا الشمس العلمي المنير على أفق المنطقة العلمية في "هاتيا" في أسرة كريمة - لأ حد وعشرين من أغسطس عام ١٩٥٥ الميلادي.
وكان آباءه -رحمه الله- أصلهم من "سنديف" واستوطنوا في "هاتيا".
وكان في آبائه علماء كبار ومحدثون أجلاء، فكان أبوه قد اشتهر بالعلم والتقوى، وتتلمذ على شيخ الإسلام شيخ العرب والعجم السيد حسين أحمد المدني رحمه الله، فقد فاق أقرانه في زمانه، وسقى كبار من العلماء منهله العذب والمورد، وأخذ منه الفقه والأحاديث.
#النشأةوالتعليم :
كان رحمه الله تعالى ترعرع في حجر العلم والعرفان، إذ عكف على تلقي العلم من العلماء الكبار من نعومة اظفاره، فتربى في حجر والدته التي كانت يتيمة دهرها فى الورع والزهد والعبادة، وفي ظلال والده الرشيد المسترشد العابد - إلى أن مضى اربع سنوات من عمره، فأخذ في قراءة التنزيل الشريف في كتاب الحي، وبعد ذلك شرع في قرائة الكتب الابتدائية، والعربية المتداولة من الصرف والنحو فى الجامعة العربية الحسينية بـسنديف.
فلما ارتوى وتضلع من علوم علماء البلاد، أزعجته لواجع الارتقاء على الرحيل لتكميل العلوم، واكتساب المعارف - لتبريد الهيام - واطفاء الغليل، فشحذ غرار العزيمة الصادقة للرحلة عن وطنه ومألفه وودع بلدته، ووصل إلى بقاع الهند.
فالتحق أولا بمدرسة كنكوه، حيث هنا عامين، وقرأ كتب المرحلة المتوسطة، بيد أنه لم تقنع بذلك القدر نفسه، ولم تنفع به علته، بل كان يزداد ظمأ إلى درك الحقائق والعلوم.
فارتحل إلى محطة رجال الأكابر، ومحطة أعيان الأفاضل، مهد العلماء الربانيين والأحبار المكرمين، شموس المعارف الإلهية وبدورها، ونجوم العلوم الدينية ونورها..
إلى بقعة أضاءت منها بقاع الهند بعد ما ظلمت، وانمحت منها ظلمات البدع بعد ما تراكمت..
إلى بقعة جرت منها ينابيع الكتاب والسنة في الفيا فى المجدبة، وقلق بها صديع العلم والهداية بعد ما آحاطت باكنافها دياجير المحدثات والجهل، وارجيت سدول الغواية - أعني- الجامعة الإسلامية دار العلوم بديوبند.
فكان قد انتسب لتحصيل العلم إليها، وتخرج منها عام ١٩٨٢ الميلادي، وتلمذ على الشيوخ الكبار، منهم فضيلة الشيخ نصير أحمد خان،والشيخ قاري طيب القاسمي، بالإضافة إلى عدد من المحدثين.
#التدريس_والإفادة :
فلما فرغ من تحصيل العلوم، أقبل على التدريس والإفادة، فعين مدرسا بالمدرسه الإشرافية بـ"راجستان" –ولاية الهندية- مبعوثا من جامعة ديوبند، ودرس هنا طوال عشر سنين،وفوض إليه تدريس الصحيح البخاري وغيره من الكتب، وقام بتدريسها خير قيام، وعلى احسن وجه، ثم جذبته نفحة وطينة، وازعحته حنين إلى زيارة الوالدين، فعزم بالرحيل إلى البلاد، وعاد إلى البلاد، وعين أستاذا في جامعة راج فول باريا، بحي شافار بالقرب من دكا، وقضى بضعة أعوام من عمره هنا، ودرس الصحيح البخاري وغيره من الفنون.
ثم انتقل إلى جامعة إمداد العلوم فريداباد دكا، ومكث هنا ست سنين، واشتغل بوظيفة تدريس الحديث الشريف، فدرس سنن الترمذي وغيره، أخذ عنه الحديث في هذه المدة المديدة جمع من طلبة العلم، وكان الشيخ يدرس الحديث بإتقان وامعان وبأسلوب سهل، ليستفيد منه الطالب حق الاستفادة.
وقرر سلطات الجامعة الإسلامية دار العلوم مدني نغر دكا فتح مرحلة التكميل دعاه أستاذه المشفق الشيخ المربي إدريس السنديفي إليها، ليقوم بوظيفة شياخة الحديث الشريف بها، قلبى دعوته، واستمر فى التدريس هنا إلى أن استأثرته رحمة الله.
وفي أثناء هذه المدة درس فيها الصحيح البخاري، وجامع الترمذي، ومشكاة المصابيح، وغيره من الفنون، واكتفى في آخر عمره على تدريس البخاري ومشكاة المصابيح، وراقم هذه الحروف أخذ منه هذين الكتابين الآخرين، وتشرف بالحضور في درسه، فلله الحمد.
إني لم أرد الا حصاءوالحصر، ولو اريد جميع ما وصل علمي إليه من سماعي عن الشيخ صراحة واشارة، أو ما ثبت عندي، لضاق بي النطق، إنما أردت إبراز جمل وقطع منتشرة-تنظيرا وتمثيلا للمشتاقين، فكان رحمه الله تعالى بحرا زاخرا لأسرار الشريعة، والسنة النبوية الشريفة، وإن علومه كانت عميقة، وحقائقه ربانية وحقا، وكان كثير التلاوة للقرآن الكريم، دائم رطب اللسان باسم الذات، بعيدا عن التكلف.
وكانت أخلاقه - قوة في دين، إيمانا في يقين، عطاء في حقوق، وانصافافي استقامة، لا يخيف على من يبغض، ولا يأثم في مساعدة من يحب.
وكان فى الصلاة خاشع، وإلى الركوع مسارع، سكوته فكرة، يخالط العلماء ليعلم، ويسكت بينهم ليسلم، ويتكلم ليغنم، إن أحسن استبشر، وان أساء استغفر، وكان وقور في الملأ، شكور فى الخلاء، قانع بالرزق، لا من الإخوان هدية، ومن السلطان عطية، وكان رحمه الله تعالى أصيب بعلل عديدة لزمته حتى الوفاة، ولما جرح رجله فى الرحلة السعيدة إلى بيت الله الحرام، أثر ذلك في صحته تأثيرا سيئا.
وكان في آخر عمره كف بصره، وأصيب بضعف العين،فصعب عليه التدريس، فكان لا يبصر نصوص الحديث، رغم ذلك انه لم ينصرف عن التدريس، فيقرأ العبارة خافضا رأسه - حتى يكاد يضع جبينه الأزهر علي الكتاب ،فظهرت علي وجهه دلائل الجهد.
وكان حاملا على أوصاف فاخرة، لا يوجد لها نظير، وصار مثاليا فيها.
منها التواضع : فكان متواضع النفس، متطأمن الجانب، وألقى رداء الكبر عن متكبيه، فكان يتجول بعد صلاة العصر مع رجال الدعوة والتبليغ، حيث يحضر في الجولة طلاب الجامعة، فكان الشيخ يخرج معهم ويمشي خلفهم.
ومنها الاستغناءمن العباد :فكان آية باهرة فيه، ولا ينظر ويتمنى إلى ما عند غيره، ولا يقبل الهدية أيضا.
ومنها إظهار كلمة الحق :فيقول الحق ولوعلى نفسه، ولا يخشى لومة لائم، ولا يجري لسانه بغير الحق.
كان رحمه الله تعالى حج أثناء إقامته بجامعة مدني نغر داكا عام ٢٠١٢، فكان يمضي أوقاته بالحرم المكي الشريف في تلاوة القرآن الكريم، وفي تحقيق المسائل والخوض فيها، وفي مشاهدة معالم التاريخية، وكان يمشي حافيافي حدود الحرم - لغاية عظمتها، وخوفا عن هتك الحرمة، فجرحت به رجله، وأصيب بمرض شديد، وكان به مرض القلب والسكر، فاشتد بذلك مرضه، فلا يكاد يمشي على رجليه، ويقضي أيامه جالسا على الكرسي المدولب-طوال الأيام.
كان شديد الاهتمام بالحضور فى المدرسة والتدريس، ولم يغب عن التدريس سوى حاجة تمس إليه، حتى إنه درس يوم وفاته صباحا مشكاة المصابيح، وختم الدرس في ختام باب الحيض، وأخر ما قاله فى الدرس : "قد اختتم الوقت المحدد، وسأبين غداً إن شاء الله مسألة أقل مدة الحيض وأكثرها، والاختلاف فيها والأدلة لها"، ثم ذهب إلى المستشفى لعادته كل أسبوع، وزار الطبيب، ووصف له الدواء، ولما رجع من المستشفى ووصل إلى الجامعة، شعر بالضعف، وحان وقت المغرب، وكان الشيخ على وضوء، فقال لمن كان عنده : تهيأ للصلاة، نحن نصلي في جماعة فى الغرفة.
ولكن الضعف أخذ في تزايد، واشتد داء الربو والنسمة، وكان جالسا على الكرسي، فاضعجه الخادم على الفراش، وظهرت عليه أمارة انتهاء العمر، وقلت رطوبات بدنه، لا يزال يزاول تلك الحال إلا دقيقتين أو أكثر، وتحرك لسانه بذكرالرحمن، وخرج من فيه كلمة التوحيد، حتى تبسم وتهلل وجهه، وسلمها إلى ربه، وانتقل إلى رحمة الله ورضوانه ومحل كرمه، وجزيل ثوابه ولبى داعي الله. إنا لله وإنا إليه راجعون.