المدارس القومية في شبه القارة الهندية ودورها في تكوين المجتمع المثالي

إن المدارس القومية ما كانت اسما فقط، بل هي روح حية وأداة استعادت مجد الأمة و فخرها في شبه القارة الهندية، وراء اسمها تاريخ طويل وأيام لا تنسى، في كل مراحل ذلك التاريخ قائد من قواد علماء الشريعة حاملين مصابيح الدجى وأنوار الدين وهم أطفئوا صيحات الطواغيت بكل شجاعة، تتأثر قلوب الآلاف من المسلمين بعد سماع أسماء أولئك الأبطال.

لما سيطر الاستعمار البريطاني على شبه القارة الهندية وجعل الأحرار عبدة، وأعزاء أذلاء خاض الهنود في إطاعتهم، في حين ثارت جماعة من علماء الشريعة وعزموا على الإهداء إلى الهند أمة حرة ساكبين دمائهم كي لا يعبد على الهند إلا الله.

وإن الهند قد امتدت إليها أيدي المستعمرين الإنكليزيين، بعد أن حكمها الإسلام قرونا من الزمن، فأفسدوا في أرض الله، وطمعوا أن يستأصلوا الإسلام من هذه القارة! فأقلعوا المساجد والمدارس، ودمروا المعاهد والكتاتيب، كأنه ما على وجه الأرض قوة تمسك بيدهم وتمنعهم من الإفساد! وكاد نور الإسلام ينطفئ من العواصف التي هبت عليه من هذا الإفساد المدمّر! ولكن علماء الدين لم ينسحبوا من ميدان الحياة، بل كافحوا وناضلوا ضد المستعمرين، وجاهَدوهم بأموالهم وأنفسهم، وأقاموا معهد فكر وثقافة وعلم لمكافحة ثقافتهم، فأسسوا "دار العلوم ديوبند".

وهدفا إلى البلوغ إلى مقصدهم أسسوا أول مدرسة دينية أهلية قومية باسم مدرسة "دار العلوم ديوبند" بمنطقة ديوبند من مخافظه سهارانفور التابعة للهند في الشمال بإشارة النبي صلى الله عليه وسلم بالمنام سنة 1866 من الميلاد، وكان تأسيسها على يد العلامة قاسم النانوتوي رحمه الله، فأبناء تلك المدرسة منحوا الهند أمة حرة بتضحياتهم العظيمة.

يحتاج لتكوين مجتمع مثالي بعد نيل الاستقلال المواطن الصالح والاستثمار في موضع حسن ولتكوين المواطن المثالي ضروري في المجتمع أن يكون هناك التعاليم المثالية والتدريب على المعيشة المثالية، لكن أين يكون وأين يدرب على ذلك الأمر؟ نعم أن المركز الرئيسي لذلك التدريب مثل هذه المدارس القومية.

وإن التاريخ شاهد على أن هذه المدارس القومية لم ولن تنجب الإرهاب ولا يوجد القتال والانتهاب والاغتصاب والدمار والمناورات الداخلية في أي من مثل هذه المدارس، لأن هناك لا تدرب على العمليات اللاإنسانية بل يدرب على تكوين المواطنين المثاليين حول تعاليم الوحي، ولا يتخرج فيها أي من اللصوص والمفسدين وآكلي الرشوة والخمور بل يتخرج فيها أعلام الأمة وقوادها.

وعندما ننظر إلى الاقتصاد نجد المدارس القومية كأفضل مركز يدرب على القناعة والجهد وترك الإسراف والصبر على الحالات الحرجة، كما هي تؤوي الفقراء والأيتام، فلهذا نرى الكثير من علماء الشريعة قام بدور مهم في تنمية الاقتصاد وفق الشريعة لصالح المجتمع والبلاد رغم حالاتهم الضعيفه، والكلام الأكبر لا يوجد أحد من الناس أن يجرأ بهذا القول بأن المتخرجين في المدارس القومية عاطلون، وكذلك أن المدارس القومية قد منحت لآلاف اليتامى والمساكين من التلاميذ والطلاب الطعام والمسكن مجانا رغم تلك المدارس لا تجد أية من المساعدات من قبل الحكومة.

وإن المدارس القومية ليست مؤسسة فقط بل هي حصن متين للإنسانية حول القرآن والسنة، لا يوجد مجال حتى هناك دور المدارس القومية مثلا في تأدية حقوق الإنسان والإنسانية، كما يوجد دورها في العقائد والإيمان والأخلاق والتعليم والتربية والتصوف والتبليغ والجهاد والأدب والصحافة والتصنيف ونصرة المظلومين ومساعدة المكروبين.

دار العلوم ديوبند

من أدوار المدارس القومية

ولا مجال للإنكار في أن علماء المدارس القومية قد لعبوا أدوارا في كل المجلات الدينية تفوق الوصف، وذلك منذ فجر تأسيس دار العلوم، واستمر إلى يومنا هذا، وسيستمر ألوفا من السنين وإلى يوم القيامة بإذن الله تعالى. فقد أنشأ علماء المدارس القومية يجاهدون في أملهم من أول وهلتهم، وكانت حياتهم حياة مثالية يحتذى بها، فأصبحوا ملجأ الناس، وصاروا قطبا يدور حوله رحى الحياة الإسلامية، خاصة في هذه القارة، وأذكر لكم بعض أدوارهم في ميدان الدعوة والإرشاد، ومجال العلم والتعليم، وساحة الإحسان والتزكية!

من الحقيقة التي لا يتطرق إليها أدنى شك في أن علماء مدارس القومية يعيشون هموم دعوتهم وهموم أمتهم، وأصبحت دعوة الناس شغلهم الشاغل، ويُجْرون نشاطاتهم الدعوية بأساليب مختلفة وطرق شتى، فمن تلك الوسائل والطرق : النصيحة والإرشاد في حفلات متنوعة واجتماعات مختلفة تهدف إلى الدعوة والتبليغ، فكانوا يجوبون الأرض من مشارقها ومغربها، ويسافرون في طول البلاد وعرضه في المناسبات الإجازية أثناء السنة الدراسية بصفة عامة، وفي عطلة شهر رمضان بعد انتهاء السنة الدراسية بصفة خاصة، فيخطبون وينصحون الناس تحت ضوء القرآن والحديث، ويلقون كلماتهم الثمينة ومحاضراتهم الغالية بأسلوب بسيط سهل الإدراك، وبطريقة جذابة عجيبة على رؤوس الأشهاد. فتَنتَمي إليها قلوب الناس وتميل إليها أفئدتهم، وينشأ في قلوبهم الغضة الإيمان الوثيق بالله، والرغبة الكافية في العمل الصالح، والأمل الكبير إلى رحمة الله وغفرانه، فيُنيبون إلى الله ويتوبون إليه، ويتركون المعصية والملاهي، فيجدِّدون سيرهم في طريق الحياة وفي طريق الجنة!

كل ما نرى من النشاطات الدعوية على وجه الأرض ومن الخدمات الجليلة في صفحة هذا الوجود باسم "الدعوة والتبليغ" الرائجة في المدَر والوَبَر، كلها من ثمرة المساعي المكثَّفة والتضحيات الكثيرة لعلماء ديوبند! لأن مشكِّلها ومجدِّدها هو سماحة الشيخ الداعية الكبير العلامة "إلياس" رحمه الله تعالى رحمة واسعة، أحدُ أبرز أبناء المدارس القومية، المرتوي من مناهلها والشارب من ينابيعها. وقد عمّت هذه الدعوة، وتشبث بها مآت آلاف من الناس! ورجعوا إلى الدين إلى الإيمان والإسلام، وكوّنوا حياتهم على فهم الإسلام وقالبه، وسيرة الإسلام وصِبغته! ويشهد التاريخ بصدق مقالتي، فعوِّلوا عليه، وارجعوا إليه! واللهَ نسأل وإليه نتوسَّل أن يُبقي ويُعمِّم هذه الرسالة الدعوية إلى أن تقوم الساعة!

هذا، وإن علماء المدارس القومية لم يوسعوا مجالهم الدعوية فحسب، بل توجهوا وأقبلوا على وجه سوي تجاه نشر العلوم الدينية –القرآن والسنة وما يتعلق بهما-! فشمروا عن ساعد الجد من أن يعُمَّ العلمُ وينشر القرآن والسنة! وقاموا أحسن قيام في هذا الميدان، فأبدعوا منهجا دراسيا، وجددوا مسلكا يكوِّن علماءً متضلعين، ويُنجب فقهاء فنِّيِّيْن، ويُخرج مَهَرةً في العلوم النبوية والفنون الشرعية! فأدرجوا في المنهج القرآنَ الكريم، والحديثَ النبويَّ الشريفَ، والتفسيرَ المأثورَ، والفقهَ الشرعيَّ، والعقائدَ الإسلاميةَ، والشمائلَ النبويةَ، والتاريخَ الإسلاميَّ الذهبيَّ وما إلى ذلك من العلوم والفنون!

فقد أثمرتْ المسَاعي التي بذَلها علماء المدارس القومية في ساحة العلم في أقرب وقت، فنشر العلمُ جذورَه بين أبناء المسلمين في بضع سنواتٍ، وجرَّاء ذلك ظهر في الهند –حسب نِطاقِها الواسع القديم- رجال مثاليِّون في العلوم والفنون، فدرَّسوا وكوَّنُوا علماء أفذاذاً في أنحاء الهند! وأسَّسوا مدارس ومعاهد، وجامعات ومساجد، وما من ناحية عامرة إلا وفيها أسَّسوا مدرسة على منهجِ وفكرِ دار العلوم! وقلّ فن من الفنون الإسلامية وعلمٌ من العلوم الشرعية إلا وَلِعلماء المدارس القومية فيه تصنيفات ومؤلفات! فصنفوا وأفادوا العباد والبلاد! ولا يزال لعلماء المدراس القومية دويٌ عجيب في الأوساط العلمية، وصفحات التاريخ مشرقة بخدماتهم الجليلة، ومصنفاتهم العامرة! وستظل مصنَّفاتهم وخَدَماتهم مشرقةَ الوجوه وضَّاءةَ الجبين تُنير العالم الإسلاميَّ برعاية الله تعالى!

أنا اليوم أتكلم عن منهل من مناهل الخدمات النبوية كاد لا تبقى شعبة من شعب الدين إلا وقد سُقيت منه، وتحي به! فإن علماء المدارس القومية قد قدموا للأمة -جنبا لجنب إلى دورهم في المجالين المذكورَين الدعوةِ والتعليمِ- قدموا دورا بارزا في مجال تزكية النفوس الضالَّة والتشرُّب من رحيقِ الإحسان والتزكية، فركَّزوا على نظافة القلوب من الأمراض وطهارتها من الأسقام، وتَحْلِيَتِها بالأخلاق الحسنة والصفات الحميدة! ونَقَّحوا أصول الإحسان والتزكيةِ –التصوفِ- على ضوء القرآن والسنة، وتحت إرشاد الصحابة والتابعين وأتباعهم، وطردوا منها تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، فأصبحت كالمرآة الصافية وجاءت مثل فلق الصبح، لا تكاد تتردد في صفاء هذه القواعد وضرورة هذه المجاهدة إلا قلوب قاسية، وأعين وعمياء، وآذان صماء!

بالجملة كل المجال من مجالات صلاح الأمة والأسوة النبوية إلا ولها دور مهم، فلذا يحبها الشعب من أعماق قلوبهم.

اترك تعليقاً