إن مغادرة أكثر من مليون شخص وطنهم نتيجة عمليات قتل جماعي لعقود ولجوئهم إلى دولة مجاورة بصفتهم أشخاص "عديمي الجنسية"، لا يمكن أن يكون مسألة داخلية لأي دولة.
هذه القضية جذبت اهتمامًا عالميًا أكبر مع فرار 700 ألف شخص ينتمون لأقلية الروهنغيا المسلمة المضطهدة من بلادهم ميانمار إلى بنغلاديش في غضون بضعة أشهر فقط، قبل ثلاث سنوات.
ولهذا لم تعد أزمة لاجئي الروهنغيا مسألة داخلية في ميانمار، بل هي الآن إحدى الأزمات العالمية الأكثر خطورة.
وتستضيف بنغلاديش أكثر من مليون لاجئ من الروهنغيا في أكبر مخيم للاجئين بالعالم في منطقة "كوكس بازار" جنوبي البلاد، والتي تعد أيضًا المركز السياحي الرئيسي في البلاد نظرًا لوجود أطول شاطئ بحري في العالم.
لكن الأنماط الاجتماعية والاقتصادية والبيئية للمنطقة تغيرت إلى الأسوأ، بسبب الآثار السلبية للمخيمات المؤقتة المكتظة وتواجد عدد كبير من الموظفين من مختلف وكالات الإغاثية والمنظمات غير الحكومية المحلية والدولية.
وساهم استقبال بنغلاديش للاجئي الروهنغيا عقب حملة القمع الوحشية في أغسطس/ آب 2017 بولاية أراكان، في تعزيز صورتها على الساحة العالمية كمثال رائع للإنسانية.
وفي بداية الأزمة، حصلت رئيسة وزراء البلاد شيخة حسينة واجد، على لقب "أم الإنسانية" لإيوائها الروهنغيا، التي وصفتهم آنذاك بأنهم "إخوة وأخوات" لهم.
لكن بنغلاديش نفسها تبدو الآن في حالة توتر مع لاجئي الروهنغيا، فبعد عامين فقط، بدأت شيخة حسينة في معالجة أزمة الروهنغيا باعتبارها تهديدًا إقليميًا وعبئا على البلاد.
وخلال خطابها بالدورة 74 للجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/ أيلول 2019 أعربت شيخة حسينة عن إحباطها من عدم عودة أي فرد من الروهنغيا إلى وطنهم ميانمار، بسبب خطورة الوضع هناك.
وفي دورة عام 2020، كررت شيخة حسينة الرسالة نفسها، داعية المجتمع الدولي إلى اتخاذ خطوات فعالة من أجل إعادة سلمية ومستدامة للروهنغيا إلى وطنهم.
إن التغيير الذي شهده موقف دكا يعبر عن الواقع الخطير للأزمة، ولا يعني ذلك أبدًا أن مشاعرها تجاه الروهنغيا تغيرت، بل إنها ترى أن الحل الحقيقي للأزمة هو عودتهم السلمية والمستدامة إلى الوطن، لأجل مصالح بنغلاديش والاستقرار الإقليمي أيضا.
وأصبح لدى بنغلاديش فرصة جديدة لإثارة قضية إعادة الروهنغيا، مع تولي الحكومة المنتخبة حديثا في ميانمار السلطة لأربع سنوات.
ومنذ فوز زعيمة ميانمار أونغ سان سو تشي بولاية ثانية، في الانتخابات العامة التي جرت في 8 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، تحاول بنغلاديش إبقاء قضية الإعادة إلى الوطن في الأجندة الدولية.
وذكرت بنغلاديش بالفعل مرات كافية أن الروهنغيا الذين أصبحوا عبئا عليها هم مواطنو ميانمار، ويجب عليها إعادتهم لوطنهم، وينبغي على المجتمع الدولي الضغط عليها لتسريع العملية.
** فرصة جديدة أمام بنغلاديش
يجب أن تثبت بنغلاديش الآن بحجج ووثائق قوية أن أكثر من مليون من الروهنغيا اللاجئين لديها منذ سنوات هم من مواطني ميانمار الذين فروا منها نتيجة القمع الوحشي.
وفي هذا الصدد، هناك عشرات التقارير والدراسات التي أجرتها بعثة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة وهيئات حقوقية عالمية أخرى.
وعلى بنغلاديش تقديم هذه المعلومات والمطالبة بإطار زمني محدد للعودة، وهو ما أشار إليه وزير خارجية بنغلاديش أبو الكلام عبد المؤمن لوسائل إعلام محلية، بقوله إن دكا ستطلب من نايبيداو إطارًا زمنيًا لإعادة الروهنغيا.
وأشار حلفاء مقربون لميانمار، بما في ذلك الصين والمملكة المتحدة، أنه بعد تشكيل حكومة جديدة في ميانمار، سيتم تسليط الضوء على قضية إعادة الروهنغيا.
وفي أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، نقل وزير الخارجية الصيني وانغ يي رسالة إلى بنغلاديش تحمل تأكيدات ميانمار بشأن قضية إعادة لاجئي الروهنغيا.
وعقب الانتخابات العامة في ميانمار، قال اللورد طارق أحمد، وزير شؤون الكومنولث والأمم المتحدة وجنوب آسيا في وزارة الخارجية، إن بلاده تريد من حكومة ميانمار الجديدة اتخاذ خطوات نحو عودة الروهنغيا بشكل آمن وكريم إلى موطنهم في إقليم أراكان.
لذلك يمكننا القول إن هناك فرصة جديدة لبنغلاديش للضغط على ميانمار من أجل إعادة الروهنغيا لموطنهم، وهو ما يثير تساؤلات حول كيفية تعامل دكا دبلوماسيا مع القضية والحفاظ على دعم الفاعلين الدوليين لها.
** الوثائق التاريخية الداعمة لمطالب بنغلاديش
تشير دراسة نشرتها منظمة الروهنغيا البورميين (BROUK)، المدافعة عن حقوق الروهنغيا في المملكة المتحدة، في 23 نوفمبر الماضي، إلى أن الإبادة الجماعية في ميانمار مستمرة بلا هوادة.
وجاء في التقرير أن "المجتمع الدولي بحاجة ماسة إلى بذل المزيد من الجهد لوقف الإبادة الجماعية، حيث تتجاهل ميانمار الإجراءات المؤقتة التي وضعتها محكمة العدل الدولية".
وتثبت الوثائق التاريخية أيضًا أن الروهنغيا هم المواطنون الأصليون لأراكان، ووفقًا للسجلات التاريخية من الفترة البريطانية حتى انتخابات 2010، كان هناك مشاركون مسلمون في جميع الانتخابات البرلمانية في ميانمار وخدموا الأمة كمشرعين ووزراء.
حتى أن معظم الروهنغيا حصلوا على حقوق التصويت في الانتخابات الوطنية لعام 2010، وفاز منهم ثلاثة مرشحون في برلمان البلاد ومرشحان آخران في برلمان إقليم أراكان.
لكن فجأة قبل الانتخابات الوطنية في 8 نوفمبر 2015، تم استبعاد المرشحين المسلمين من الانتخابات وحُرم مسلمو الروهنغيا فجأة من حق التصويت.
ولذلك يجب على بنغلاديش تشكيل فريق بحث قوي لجمع جميع الوثائق المتاحة لإثبات أن الروهنغيا هم مواطني ميانمار وأنهم واجهوا حملات القمع الوحشي لعقود.
وعلى ميانمار استعادة مواطنيها على الفور ومعاملة الروهنغيا الذين ما زالوا داخل البلاد بشكل لائق.
** القضايا التي يمكن لبنغلاديش عرضها أمام العالم
إن أكثر من مليون لاجئ من الروهنغيا، الذين يعيشون في خيام مؤقتة مزرية في بنغلاديش، ليس لديهم مجال كبير للثقة في إدارة سو تشي لاستعادة حقهم في الجنسية والعودة الكريمة إلى الوطن.
ولا تزال حكومة ميانمار تنكر أن الروهنغيا هم مواطنيها، وتعاملهم على أنهم "بنغاليون غير شرعيين".
حتى أن حوالي 600 ألف من الروهنغيا الذين ما زالوا في ميانمار، ومعظمهم في أراكان، حُرموا من حقهم في الجنسية بموجب قانون المواطنة المثير للجدل لعام 1982.
وفي الانتخابات العامة، تم تهميش الروهنغيا وبعض الأقليات العرقية الأخرى، كما لم يُسمح لأي شخص منهم بخوض الانتخابات.
ووفقًا للبيانات الرسمية والتقارير المتاحة في وسائل الإعلام العالمية، تم احتجاز أكثر من 120 ألفًا من الروهنغيا داخل ميانمار في معسكرات النازحين داخليًا دون أي حقوق أساسية مثل حرية التنقل وحرية التعبير والتعليم.
ولا تزال أعمال الإبادة الجماعية مستمرة في ميانمار بموجب أوامر مباشرة من الدولة، رغم أن حكومة سو تشي والجيش يمثلان أمام محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية.
وأعربت عشرات المنظمات العالمية المدافعة عن حقوق الإنسان عن قلقها أكثر من مرة بشأن الإبادة الجماعية المستمرة ضد الروهنغيا وجماعات عرقية أخرى، لكن ميانمار لم تتخذ أي خطوات بعد.
وحتى الآن لم تسمح ميانمار لأي لجنة تحقيق أو ممثل دولي بزيارة إقليم أراكان لتقييم تهم التطهير العرقي والإبادة الجماعية التي ارتكبها جيش ميانمار بدعم كامل من الحكومة.
وبالنظر لهذا يمكننا القول بلا شك أن ميانمار غير مستعدة على الإطلاق لإعادة الروهنغيا إلى وطنهم مع ضمان حقوقهم وكرامتهم.
ويجب على بنغلاديش أن تضع الحقائق المذكورة أعلاه أمام الجهات الفاعلة العالمية، من خلال جميع القنوات الدبلوماسية الممكنة، للضغط على ميانمار.
وإلا فإن قضية عودة الروهنغيا ستضعف مع مرور الوقت؛ مما يجعل الروهنغيا أكثر عرضة للتطرف أو الإجرام، وهو ما سيأثر بشكل سلبي على المنطقة بأسرها.
** كيف تستطيع بنغلاديش إقناع حلفائها؟
قدمت الهند مؤخرًا غواصة إلى ميانمار واستثمرت مبلغًا ضخمًا من الأموال فيها، وهو ما يبدو مقلقًا بالنسبة لبنغلاديش.
ولذلك يجب على دكا التواصل على الفور مع نيودلهي ومطالبتها بالضغط على ميانمار لإعادة الروهنغيا إلى الوطن.
والهند أكدت بالفعل في مناسبات مختلفة أنها تقف مع دكا في قضية إعادة الروهنغيا، ويجب على بنغلاديش إخبار الهند بوضوح شديد بأنه من واجبها الأخلاقي إجبار ميانمار على استعادة مواطنيها.
وتعمل الصين الآن أيضًا على العديد من المشاريع الضخمة في بنغلاديش، و يشارك حاليًا ما يقرب من مليون صيني في مشاريع وأنشطة تجارية مختلفة هناك، وعلى دكا توسيع حوارها الدبلوماسي مع بكين للضغط على سو تشي.
وأخيرًا، يمكن القول أنه بالاستعانة بجميع الوثائق المناسبة، يجب على بنغلاديش مخاطبة المجتمعات الدولية، خاصة التي لها علاقات اقتصادية مع ميانمار، والتأكيد على أن الروهنغيا مواطنون في ميانمار تعرضوا لإبادة جماعية وقمع وحشي لعقود أمام العالم.
ويجب على المجتمع الدولي اتخاذ الخطوات اللازمة على الفور من أجل العودة السلمية والكريمة للروهنغيا، من أجل الحفاظ على السلام في المنطقة.
** الكاتب الصحفي محمد قمر الزمان المقيم في آسيا المهتم بشؤون الدبلوماسية وحقوق الإنسان وتغير المناخ وأزمة اللاجئين.
** الآراء الواردة في المقال هي آراء المؤلف ولا تعكس بالضرورة السياسة التحريرية لوكالة الأناضول.
المصدر : وكالة الأناضول