في ظل حالة من الفوضى العارمة التي اجتاحت بنغلاديش بعد “ثورة شعبية إثر حركة طلابية”، والتي نتجت عن خلافات داخلية وتحركات خارجية مشبوهة، كانت البلاد بحاجة إلى قيادة حكيمة لإعادة الأمور إلى مسارها الصحيح. من الخامس إلى الثامن من أغسطس، عاشت بنغلاديش بلا حكومة فاعلة، حتى عاد البروفيسور محمد يونس، الحائز على جائزة نوبل للسلام، ليحمل على عاتقه مسؤولية كبيرة بتعيينه مستشارًا رئيسيًا للحكومة المؤقتة في ظروف شديدة التعقيد. كان قرار يونس بالعودة وتولي هذا المنصب في وقت حساس أشبه بدخولٍ إلى أرضٍ موحلة، فالمخاطر كانت كبيرة والعواقب قد تكون غير قابلة للتصحيح.
يونس، الذي طالما اشتهر عالمياً بتفانيه في تحسين حياة الفئات الأقل حظًا، قرر قبول هذا التحدي ليس من أجل مكاسب شخصية، ولكن ليترك إرثًا حقيقيًا يدون في تاريخ بلاده. وسط هذه الظروف المضطربة، كان يونس يدرك أن فشله ليس خيارًا، بل هو خطر يُهدد مستقبله وحياة ملايين الأشخاص الذين يترقبون إنقاذًا من هذه الأزمة.
تحت قيادته، واجهت بنغلاديش العديد من التحديات من داخلها وخارجها، خاصة من بقايا النظام السابق برئاسة الشيخة حسينة، التي أطيح بها في أغسطس 2024. من بين تلك التحديات، كانت هناك محاولات لزعزعة استقرار البلاد عبر تحريض جماعات معينة في الأقليات، والتي كان يقال إن قوى خارجية قد دعمتها. تزامن هذا مع هجوم واسع النطاق من وسائل الإعلام الهندية، التي تسيطر عليها المؤسسة الحاكمة، ضد بنغلاديش، حيث حاولت تشويه سمعة الحكومة الجديدة بنشر أكاذيب وتحريفات إعلامية تهدف إلى إرباك الوضع الداخلي وإضعاف موقف بنغلاديش على الصعيد الدولي.
كانت إحدى القصص التي استخدمتها وسائل الإعلام الهندية لتشويه سمعة بنغلاديش تتعلق بتشينموي داس، وهو رجل دين تم طرده من منظمة غير حكومية محلية، ليتم القبض عليه لاحقًا بتهمة تحريض العنف الطائفي. بعد أن قتل أتباعه أحد المسؤولين في وضح النهار، استغلت وسائل الإعلام الهندية الحادث لتوجيه اتهامات مزعومة ضد حكومة بنغلاديش، متهمة إياها باضطهاد الأقليات. وكانت ردود الفعل الدولية، مثل دعوة رئيسة وزراء ولاية البنغال الغربية ماماتا بانيرجي إلى إرسال قوات حفظ سلام تابعة للأمم المتحدة إلى بنغلاديش، تؤجج الوضع بدلاً من تخفيفه.
الهند… دوافع رد الفعل
من المهم أن نُدرك أن رد الفعل الهندي على ما هو في جوهره شؤون داخلية لبنغلاديش ينبع من سببين رئيسيين: الأول، فقدان الهند نفوذها بعد الإطاحة بحكومة الشيخة حسينة، الحليف الموثوق لها، الذي سهل لها تحقيق مصالحها الاستراتيجية في بنغلاديش على حساب هذه الدولة. لم تكن هذه الخسارة مجرد ضربة دبلوماسية، بل كانت بمثابة فشل في استراتيجية الهند تجاه جيرانها. الثاني، هو ما يُشاع عن حقوق الأقليات في بنغلاديش. على الرغم من أن الدستور البنغلاديشي يكفل حقوق الأقليات الدينية والثقافية، وتاريخ البلاد يشهد على تكامل مجتمعي، إلا أن الحملة الإعلامية الهندية ساعدت في تعزيز صورة مغلوطة عن اضطهاد الأقليات في بنغلاديش، وهي صورة لا تعكس الواقع السياسي الملتبس الذي تمر به البلاد.
الدبلوماسية في مواجهة التحديات
في محاولة لاحتواء الوضع، زار وزير الخارجية الهندي فيكرام ميسري العاصمة دكا في 9 ديسمبر للمشاركة في المشاورة السنوية لوزارة الخارجية. خلال زيارته، أجرى محادثات مع نظيره البنغلاديشي محمد جاشيم الدين، وكذلك مع مستشار الحكومة المؤقتة محمد يونس. وعلى الرغم من المجاملات التي أبدتها الحكومة البنغلاديشية، إلا أن تصريحات ميسري التي ركزت على قضايا الأقليات، مع تجاهل للأزمات الأخرى، مثل الهجمات الإعلامية الهندية ضد بنغلاديش، والقتل على الحدود، وما يخص النزاعات المائية، كشفت عن أجندة أحادية الجانب تثير المزيد من الاستفهام حول نوايا الهند تجاه جيرانها.
مكانة بنغلاديش في الساحة الدولية
ورغم الحملة الإعلامية الهندية التي استهدفت بنغلاديش، فإن المجتمع الدولي كان أكثر تأييدًا لهذه الثورة الداخلية التي قادها يونس. وقد نال البروفيسور محمد يونس إشادة واسعة على الساحة العالمية، بما في ذلك في الأمم المتحدة، وفي المنتديات الدولية مثل قمة مجموعة الثماني النامية في القاهرة، حيث حصل على دعم واسع للانتقال الديمقراطي في بلاده. وبذلك، أكدت بنغلاديش نفسها كدولة مستقلة، تهدف إلى الحفاظ على سيادتها وتعزيز تطورها الداخلي بعيدًا عن التدخلات الخارجية.
رسالة إلى الهند
إن الهند، التي طالما شكلت جارة مهمة لبنغلاديش، يجب أن تضع في اعتبارها المشاعر العالمية التي تتزايد تجاه الأحداث الأخيرة في بنغلاديش. فحملات التشويه الإعلامي ضد بنغلاديش لم تجد صدى كبيرًا على المستوى الدولي، بل أضرت بمصداقية الهند في الساحة الإعلامية العالمية. كما أن دعمها السياسي للشيخة حسينة، التي أطيح بها بعد سنوات من الحكم الاستبدادي، يضعها في موقف حساس، مع تساؤلات حول دورها في دعم الأنظمة غير الديمقراطية.
بنغلاديش، وهي دولة مسالمة، تسعى لبناء علاقة صداقة وتعاون حقيقي مع الهند، ولكن هذه العلاقة يجب أن تكون مبنية على الاحترام المتبادل والاعتراف بسيادة كل دولة وعدم التدخل في شؤونها الداخلية. من دون هذه المبادئ الأساسية، لن تتمكن أي من الدولتين من تحقيق شراكة استراتيجية ناجحة.