بنغلاديش والهند: تحديات العلاقة وصراع السيادة بعد أحداث أغسطس 2024

في وقت يواجه فيه البلدان تحديات سياسية واقتصادية معقدة، تتفاقم التوترات بين بنغلاديش والهند على خلفية الأحداث الجارية في بنغلاديش، خاصة بعد سقوط الحكومة الاستبدادية للشيخة حسينة في أغسطس 2024. هذه الأحداث تطرح سؤالًا مهمًا: هل يمكن للهند أن تكون جارًا حسن النية؟ وكيف يمكن بناء علاقة قائمة على الاحترام المتبادل والسيادة بين هذين الجارين اللذين يشتركان في تاريخ طويل ومعقد؟

تاريخ مشترك وجغرافيا مترابطة

تجمع الهند وبنغلاديش روابط تاريخية وثقافية ودينية قديمة. فمنذ العصور القديمة، كانت بنغال الكبرى جزءًا من الإمبراطوريات الهندية العظمى مثل الماورية والغوبتية والمغولية، ما أسهم في تشكيل تراث ثقافي وديني مشترك بين الشعبين. وبعد الاستعمار البريطاني، كان التقسيم في عام 1947 بمثابة نقطة فصل حاسمة في العلاقات بين الهند وبنغلاديش، حيث أدى إلى نشوء دولتين مستقلتين، ولكن مع روابط اجتماعية وثقافية لا يمكن إنكارها.

اليوم، تقع بنغلاديش محاطة بالكامل تقريبًا بالهند، مع حدود مشتركة تمتد على طول 4096 كيلومترًا. إلى جانب ذلك، تتشارك الدولتان في العديد من الأنهار العابرة للحدود مثل نهر الغانج والبرهمابوترا، التي تشكل شريان الحياة لملايين الناس في البلدين. وعلى الرغم من هذه الروابط العميقة، فإن العلاقة بينهما لطالما شهدت تقلبات، خاصة بسبب التصورات المتباينة حول النفوذ والسيادة.

السياسة الداخلية لبنغلاديش والتأثير الهندي

لطالما كانت العلاقة بين الهند وبنغلاديش معقدة بسبب ما يمكن تسميته بـ “المسألة الهندية”. فالهند، باعتبارها القوة الإقليمية الكبرى، كانت في العديد من الأحيان تمثل “الأخ الأكبر” بالنسبة لبنغلاديش، وهو ما أثار الكثير من القلق في بنغلاديش حول الهيمنة الهندية. خاصة أن هناك تفاوتًا اقتصاديًا واضحًا بين البلدين، مما يعمق هذا الشعور.

إلا أن الأحداث السياسية الأخيرة في بنغلاديش قد أضافت بُعدًا جديدًا لهذا الصراع. في أغسطس 2024، أدت الاحتجاجات الواسعة ضد حكومة الشيخة حسينة إلى انهيار النظام الحاكم، بعد أن قوبل المحتجون بالقمع الوحشي من قبل قوات الأمن. أفادت التقارير بأن نحو 1500 شخص لقوا حتفهم وجرح أكثر من 20,000 آخرين، مما كشف عن حقيقة التوتر السياسي في البلاد. وتزامن هذا مع فرار الحكومة الاستبدادية إلى الهند، ما أثار العديد من التساؤلات حول دور الهند في هذا الانهيار.

من جهة، يرى الكثيرون أن الحكومة الهندية، رغم أنها كانت قد صمتت في البداية عن هذه الانتهاكات، لم تلبث أن أبدت نوعًا من الدعم للنظام السابق بعد سقوطه، بل وسعت إلى تعزيز العلاقات مع عناصر سياسية في بنغلاديش تدين بالولاء للهند. هذا التصور يعزز الشكوك في بنغلاديش حول دور الهند في التدخل في شؤونها الداخلية، مما يزيد من توتر العلاقات بين البلدين.

التوترات الدينية والعنف في الهند: تأثيرها على العلاقات الثنائية

من جانب آخر، تتسبب التوترات الدينية المستمرة في الهند في تعقيد العلاقات الثنائية بشكل أكبر. منذ استقلال الهند في عام 1947، شهدت البلاد العديد من الحوادث التي كشفت عن مدى التوتر الطائفي، مثل أحداث هدم مسجد بابري عام 1992 وأعمال الشغب في غوجارات عام 2002، التي أسفرت عن مقتل المئات من المسلمين. ورغم مرور الوقت، لا يزال العنف ضد المسلمين في الهند مستمرًا، سواء تحت مسمى “الرقابة على الأبقار” أو عبر قوانين مثل “قانون تعديل الجنسية” (CAA) الذي يميز ضد المسلمين.

هذا التوتر الديني في الهند له تأثير مباشر على صورة الهند في بنغلاديش. حيث يشعر الكثيرون في بنغلاديش أن الهند قد لا تكون قادرة على الحفاظ على قيم الديمقراطية والمساواة التي تدعيها. هذا التوتر، سواء في الهند أو في بنغلاديش، يسهم في تصاعد مشاعر العداء والقلق بشأن التدخلات الهندية، خاصة بعد فرار حكومة الشيخة حسينة إلى الهند، مما أثار تساؤلات حول الدور الهندي في الأزمة البنغلاديشية الأخيرة.

التدخلات الاستخباراتية: تآكل السيادة البنغلاديشية

من المتداول في بنغلاديش أن وكالة الاستخبارات الهندية “را” قد لعبت دورًا في التدخل في الشؤون الداخلية لبنغلاديش. ففي بعض الأحيان، يُتهم جهاز “را” بدعم جماعات سياسية موالية للهند داخل بنغلاديش، ما أدى إلى تعميق الانقسامات الداخلية. المنطقة الجنوبية الشرقية لبنغلاديش، حيث تقع منطقة التلال، هي مثال على هذه التدخلات المزعومة، حيث يُعتقد أن “را” قد تكون وراء تحريض الاحتجاجات والانقسامات في هذه المنطقة.

تُضاف إلى ذلك ادعاءات متزايدة حول وجود تدخلات استخباراتية تهدف إلى تعزيز مصالح الهند على حساب استقرار بنغلاديش. ووفقًا لهذه التصورات، فإن الحكومة الهندية قد ساعدت في تعزيز وجود أطراف سياسية تروج لأجندتها، وهو ما تسبب في تآكل الثقة الشعبية في الهند وساهم في توتر العلاقات بين البلدين.

التعاون المستقبلي: فرصة للسلام أو المزيد من التوتر؟

رغم التوترات الحالية، لا يزال هناك أمل في تعزيز التعاون بين بنغلاديش والهند في القضايا المشتركة، مثل محاربة الفقر، وتحسين الرعاية الصحية، ومكافحة آثار تغير المناخ. ولكن لتحقيق هذا التعاون الفعال، يجب على الهند أن تلتزم بعدم التدخل في شؤون بنغلاديش الداخلية، وأن تحترم السيادة البنغلاديشية. كما يجب على بنغلاديش أن تبذل جهدًا لتطوير علاقاتها مع الهند على أساس الشراكة المتوازنة، التي تأخذ في الاعتبار مصالح الطرفين دون التفريط في استقلال البلاد.

في هذا السياق، يمكن لبنغلاديش والهند التعاون في مجال الاستعداد للكوارث، والطاقة المتجددة، وإدارة الموارد المشتركة. لكن ذلك يتطلب ضمانات واضحة بعدم التدخل الهندي في السياسة الداخلية لبنغلاديش، واحترام حكومة بنغلاديش لحق شعبها في تقرير مصيره.

الطريق نحو شراكة قائمة على الثقة

بناء علاقة مستقرة بين بنغلاديش والهند يتطلب إرادة سياسية من الطرفين. يجب على الهند أن تتوقف عن التدخل في الشؤون البنغلاديشية، وأن تتبنى سياسة تقوم على الاحترام الكامل لسيادة بنغلاديش. كما أن بنغلاديش يجب أن تواصل تعزيز علاقتها مع الهند من خلال سياسة دبلوماسية متوازنة ترتكز على الثقة المتبادلة. من خلال هذه الجهود، يمكن للبلدين تشكيل شراكة حقيقية تقوم على التعاون المشترك والتقدم المستدام في جميع المجالات.