أبو صفوان أمير حمزة
يأتي الشتاء إلى بنغلاديش كضيفٍ كريم يدخل البلاد بلطف وهدوء، دون صخب أو عنف، فيبسط برده الخفيف على الوجوه ويمنح الناس شعورًا جديدًا بالحياة. ومع أيامه الأولى يسكن الهواء، وتصفو السماء، ويغدو الصباح مغطّى بضباب ناعم ينساب فوق الحقول والطرقات كأن الطبيعة ترتدي وشاحًا أبيض. وبرغم غياب الثلوج القاسية في هذا البلد، إلا أن للشتاء حضورًا مميزًا يشعر به الجميع في حياتهم اليومية وذكرياتهم.
بعد شهور طويلة من الحر والرطوبة، يأتي الشتاء كاستراحة يحتاجها الناس ليخفّ عنهم ثقل العام، فتنشط مشاعر الراحة، وتزداد قدرة الناس على التركيز والاستمتاع بلحظاتهم. تظهر في البيوت والأسواق والمدارس عادات لا تظهر إلا في هذا الفصل، مثل إشعال النار عند الفجر، وشرب الشاي الساخن في الأزقة، وتحضير الأطعمة الشتوية المحببة للجميع. وتتنوع مشاعر الناس؛ فالبعض يراه فصل النشاط والجدّ، وآخرون يجدون فيه دفئًا عائليًا يجمع أفراد الأسرة، بينما يشعر الفقراء بوجهه القاسي بسبب نقص الملابس وضعف البيوت أمام برد الليل.
يمتد الشتاء من أواخر نوفمبر إلى أوائل فبراير، ويتميز بثلاث ظواهر واضحة. أولها الضباب الكثيف الذي يعد أوضح علامة على قدوم الشتاء. يبدأ خفيفًا ثم يتكاثف حتى يحجب الرؤية، ويبقى أحيانًا إلى منتصف النهار، مؤثرًا في المواصلات والمدارس والرحلات. ثانيها انخفاض درجات الحرارة إلى ٨–١٢ درجة، وقد تصل في الشمال إلى خمس درجات، مما يجعل الشتاء قاسيًا خصوصًا على البيوت البسيطة. أما الظاهرة الثالثة فهي الرياح الجافة الباردة التي تهب بقوة خاصة ليلًا، وفي المناطق الزراعية المفتوحة، فيشعر الناس بأنفاس الشتاء تضرب الوجوه والأطراف.
وفي القرى البنغلاديشية يظهر الشتاء بوضوح أكبر. فالناس يعيشون قريبين من الأرض، والبيوت لا تملك ما يمنع البرد. يبدأ النهار بضباب كثيف ورائحة الدخان المتصاعد من نيران يشعلها الرجال والنساء عند الفجر. يجتمع الناس حول النار بحثًا عن الدفء، ويتبادلون الأحاديث، بينما يجلس الأطفال قريبين من أمهاتهم وهم يمدّون أيديهم نحو اللهب. وتبدو الحقول في الشتاء لوحة خضراء واسعة، حيث تُزرع الخضروات الشتوية كالملفوف والجزر والفجل والبطاطس، وتفوح رائحة التراب الرطب فتبعث في النفس سكينة وراحة.
أما البيوت الريفية المصنوعة من الطين والصفيح، فتكون أشدّ برودة في الليل، إذ تتسلل الرياح من شقوقها الصغيرة، فيجتمع الناس تحت البطانيات القديمة ويتقارب الأطفال وأمهاتهم في مشهد عائلي يعكس شدة البرد وضعف الإمكانات، لكنه يعبّر في الوقت نفسه عن قوة الروابط الأسرية.
وفي المدن، وخاصة في دكا وشيتاغونغ، يختلف المشهد. فالشتاء يمتزج بالازدحام والضباب والدخان، فتبدو السماء رمادية، وتضعف الرؤية، ويضطر الناس إلى السير بحذر. ويسير الطلاب إلى مدارسهم ملفوفين بالشالات، بينما تتأخر الحصص الدراسية في الأيام الثقيلة الضباب. ويخرج العمال مبكرين رغم البرد لأن رزقهم مرتبط بعملهم اليومي. وتزدحم الأسواق بشراء الفول السوداني والكعك الشعبي “بيتّا” والحلويات والبطانيات، وتنتشر رائحة الفحم والشاي الساخن من عربات الباعة، فيضفي ذلك جوًا شتويًا خاصًا على المدينة.
ويظهر الجانب المؤلم من الشتاء في معاناة الفقراء. فالبيوت الهشة تسمح للبرد بالدخول، فيرتجف الأطفال طوال الليل، وتزداد الأمراض كالحمى والسعال. وتعتمد كثير من الأسر على الملابس المستعملة التي تقدمها الجمعيات الخيرية، ويحصل بعض الأطفال على قطعة واحدة لا تكفيهم. أما العمال الذين يعيشون على الأجر اليومي، فلا خيار لديهم إلا الخروج للعمل مهما اشتد البرد، فيواجهون الصباح القارس بإرادة وصبر حفاظًا على معيشتهم.
ويرتبط الشتاء أيضًا بمشاعر خاصة لدى الناس؛ فهو فصل يقرّب أفراد الأسرة ويمنحهم لحظات دافئة حول الطعام الساخن، ويتسم بالهدوء الذي يشجع على التأمل والقراءة، لكنه كذلك يوقظ مشاعر الرحمة والحزن عندما يرى الناس المحتاجين يعانون. ولذلك تزداد الأعمال الخيرية، فتوزع البطانيات والملابس على الفقراء.
ويُحدث الشتاء تغيرات واضحة في نمط الحياة، إذ ينام الناس مبكرًا، ويجدون صعوبة في الاستيقاظ، ويجلسون كل صباح تحت الشمس الدافئة، وتزداد الحركة الزراعية. كما تتغير الطبيعة فتتساقط أوراق الأشجار، وتصفو السماء، ويجف الهواء. ويتغير المجتمع أيضًا بتزايد الحفلات الدينية والزيارات الاجتماعية ونشاط الجمعيات الخيرية.
وفي الخاتمة، يبقى الشتاء فصلًا قصيرًا لكنه غني بالتجارب والمعاني، يكشف جمال الطبيعة، ويقرب الناس من بعضهم، ويظهر صبر الفقراء وكرم القادرين. ورغم أن أيامه قليلة، فإن أثره طويل، يترك في القلوب ذكريات لا تمحى عامًا بعد عام.