من أدوار علماء ديوبند : خدماتهم المتنوعة في مجالات الدين المختلفة

الحمد لله الذي أنزل الذكر الحكيم، وتكفل لحفظه بنفسه، فأوجد له طرقا وأساليب، واختار رجالا من عباده يحفظون القرآن ويستظهرونه، ورجالا آخرين يحملون الدين وعلومه، وسنَّ أن يَبْعَثَ لِهذِهِ الأُمَّةِ على رَأْسِ كلِّ مائَةِ سَنَةٍ مَنْ يَجَدِّدُ لها دِينَها، والصلاة والسلام على النبي المصطفى ﷺ، أول مؤسس للمدرسة في الصفة، والقائل : "يحمل هذا العلم من كل خلَف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين"، وعلى آله حملة العلم والدين، صحابته الهداة المهديين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد، فإن الهند قد امتدت إليها أيدي المستعمرين الإنكليزيين، بعد أن حكمها الإسلام قرونا من الزمن، فأفسدوا في أرض الله، وطمعوا أن يستأصلوا الإسلام من هذه القارة! فأقلعوا المساجد والمدارس، ودمروا المعاهد والكتاتيب، كأنه ما على وجه الأرض قوة تمسك بيدهم وتمنعهم من الإفساد! وكاد نور الإسلام ينطفئ من العواصف التي هبت عليه من هذا الإفساد المدمّر! ولكن علماء الدين لم ينسحبوا من ميدان الحياة، بل كافحوا وناضلوا ضد المستعمرين، وجاهَدوهم بأموالهم وأنفسهم، وأقاموا معهد فكر وثقافة وعلم لمكافحة ثقافتهم، فأسسوا "دار العلوم ديوبند".

نحن اليوم بصدد ذكر بعض أدوار علماء ديوبند، ولا مجال للإنكار في أن دار العلوم ديوبند وعلماءه قد لعبوا أدوارا في كل المجلات الدينية تفوق الوصف، وذلك منذ فجر تأسيس دار العلوم، واستمر إلى يومنا هذا، وسيستمر ألوفا من السنين وإلى يوم القيامة بإذن الله تعالى. فقد أنشأ علماء ديوبند يجاهدون في أملهم من أول وهلتهم، وكانت حياتهم حياة مثالية يحتذى بها، فأصبحوا ملجأ الناس، وصاروا قطبا يدور حوله رحى الحياة الإسلامية، خاصة في هذه القارة، وأذكر لكم بعض أدوارهم في ميدان الدعوة والإرشاد، ومجال العلم والتعليم، وساحة الإحسان والتزكية!

من الحقيقة التي لا يتطرق إليها أدنى شك في أن علماء دار العلوم ديوبند يعيشون هموم دعوتهم وهموم أمتهم، وأصبحت دعوة الناس شغلهم الشاغل، ويُجْرون نشاطاتهم الدعوية بأساليب مختلفة وطرق شتى، فمن تلك الوسائل والطرق : النصيحة والإرشاد في حفلات متنوعة واجتماعات مختلفة تهدف إلى الدعوة والتبليغ، فكانوا يجوبون الأرض من مشارقها ومغربها، ويسافرون في طول البلاد وعرضه في المناسبات الإجازية أثناء السنة الدراسية بصفة عامة، وفي عطلة شهر رمضان بعد انتهاء السنة الدراسية بصفة خاصة، فيخطبون وينصحون الناس تحت ضوء القرآن والحديث، ويلقون كلماتهم الثمينة ومحاضراتهم الغالية بأسلوب بسيط سهل الإدراك، وبطريقة جذابة عجيبة على رؤوس الأشهاد. فتَنتَمي إليها قلوب الناس وتميل إليها أفئدتهم، وينشأ في قلوبهم الغضة الإيمان الوثيق بالله، والرغبة الكافية في العمل الصالح، والأمل الكبير إلى رحمة الله وغفرانه، فيُنيبون إلى الله ويتوبون إليه، ويتركون المعصية والملاهي، فيجدِّدون سيرهم في طريق الحياة وفي طريق الجنة!

كل ما نرى من النشاطات الدعوية على وجه الأرض ومن الخدمات الجليلة في صفحة هذا الوجود باسم "الدعوة والتبليغ" الرائجة في المدَر والوَبَر، كلها من ثمرة المساعي المكثَّفة والتضحيات الكثيرة لعلماء ديوبند! لأن مشكِّلها ومجدِّدها هو سماحة الشيخ الداعية الكبير العلامة "إلياس" رحمه الله تعالى رحمة واسعة، أحدُ أبرز أبناء دار العلوم ديوبند، المرتوي من مناهله والشارب من ينابيعه. وقد عمّت هذه الدعوة، وتشبث بها مآت آلاف من الناس! ورجعوا إلى الدين إلى الإيمان والإسلام، وكوّنوا حياتهم على فهم الإسلام وقالبه، وسيرة الإسلام وصِبغته! ويشهد التاريخ بصدق مقالتي، فعوِّلوا عليه، وارجعوا إليه! واللهَ نسأل وإليه نتوسَّل أن يُبقي ويُعمِّم هذه الرسالة الدعوية إلى أن تقوم الساعة!

هذا، وإن علماء ديوبند لم يوسعوا مجالهم الدعوية فحسب، بل توجهوا وأقبلوا على وجه سوي تجاه نشر العلوم الدينية –القرآن والسنة وما يتعلق بهما-! فشمروا عن ساعد الجد من أن يعُمَّ العلمُ وينشر القرآن والسنة! وقاموا أحسن قيام في هذا الميدان، فأبدعوا منهجا دراسيا، وجددوا مسلكا يكوِّن علماءً متضلعين، ويُنجب فقهاء فنِّيِّيْن، ويُخرج مَهَرةً في العلوم النبوية والفنون الشرعية! فأدرجوا في المنهج القرآنَ الكريم، والحديثَ النبويَّ الشريفَ، والتفسيرَ المأثورَ، والفقهَ الشرعيَّ، والعقائدَ الإسلاميةَ، والشمائلَ النبويةَ، والتاريخَ الإسلاميَّ الذهبيَّ وما إلى ذلك من العلوم والفنون!

فقد أثمرتْ المسَاعي التي بذَلها علماء ديوبند في ساحة العلم في أقرب وقت، فنشر العلمُ جذورَه بين أبناء المسلمين في بضع سنواتٍ، وجرَّاء ذلك ظهر في الهند –حسب نِطاقِها الواسع القديم- رجال مثاليِّون في العلوم والفنون، فدرَّسوا وكوَّنُوا علماء أفذاذاً في أنحاء الهند! وأسَّسوا مدارس ومعاهد، وجامعات ومساجد، وما من ناحية عامرة إلا وفيها أسَّسوا مدرسة على منهجِ وفكرِ دار العلوم! وقلّ فن من الفنون الإسلامية وعلمٌ من العلوم الشرعية إلا وَلِعلماء ديوبند فيه تصنيفات ومؤلفات! فصنفوا وأفادوا العباد والبلاد! ولا يزال لعلماء ديوبند دويٌ عجيب في الأوساط العلمية، وصفحات التاريخ مشرقة بخدماتهم الجليلة، ومصنفاتهم العامرة! وستظل مصنَّفاتهم وخَدَماتهم مشرقةَ الوجوه وضَّاءةَ الجبين تُنير العالم الإسلاميَّ برعاية الله تعالى!

أنا اليوم أتكلم عن منهل من مناهل الخدمات النبوية كاد لا تبقى شعبة من شعب الدين إلا وقد سُقيت منه، وتحي به! فإن العلماء الديوبنديين قد قدموا للأمة -جنبا لجنب إلى دورهم في المجالين المذكورَين الدعوةِ والتعليمِ- قدموا دورا بارزا في مجال تزكية النفوس الضالَّة والتشرُّب من رحيقِ الإحسان والتزكية، فركَّزوا على نظافة القلوب من الأمراض وطهارتها من الأسقام، وتَحْلِيَتِها بالأخلاق الحسنة والصفات الحميدة! ونَقَّحوا أصول الإحسان والتزكيةِ –التصوفِ- على ضوء القرآن والسنة، وتحت إرشاد الصحابة والتابعين وأتباعهم، وطردوا منها تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، فأصبحت كالمرآة الصافية وجاءت مثل فلق الصبح، لا تكاد تتردد في صفاء هذه القواعد وضرورة هذه المجاهدة إلا قلوب قاسية، وأعين وعمياء، وآذان صماء!

ولست أنا بصدد إحصاء أدوار العلماء الديوبنديين، فإنها لا يحصيها عادٌّ، ولا يشملها دواوين ودفاتر، فإن دار العلوم -كما قلت- قد أصبح معهد فكر وثقافة، وعلم ودين للإسلام والمسلمين على الصعيد المحلي والدولي! فلعب أدوارا وقدَّم خَدَمات تفوق الوصف في جميع المجلات، وستلعب وتُقدم وسوف تظل تعلب وتُقدم إلى يوم القيامة إنشاء الله تعالى، وما ذلك على الله بعزيز!

اترك تعليقاً