فخر البنغال تاج الإسلام – من أكابر علماء بنجلاديش الذي لعبوا دورا فعالا في خدمة الدين

فخر البنغال تاج الإسلام - من أكابر علماء بنجلاديش الذي لعبوا دورا فعالا في خدمة الدين

بقلم الاستاذ / أبو بكر

"مضت الدهور وما أتين بمثله * ولقد أتى فعجزن عن نظرائه"

والله، لقد أتيتكم في طليعة المقال بهذا البيت من أبيات الشاعر المتنبي في مدح ممدوحه، إيماناً بأنه لوكان- المتنبى- باقياحتى اليوم في هذه الأرض، ثم رأى من هو نُصْب أعيننا الآن، لاستخدم لسانه المصقع ينشد في صاحبنا أيضاً ذلك البيت.

يا أحبابي أعرفتم من ذا الذي بين أيدينا الآن؟

هي الشخصية البارزة بروز الغزالة التي تضيئ بأشعتها الأرض وتهدي الضالين عن الطرق؛ وهذه الشخصية التي جرَّت أنفسَنا إلى أن نرتعي حياته ونقتني منها أزودة كثيرة، والتي عُرفت بين الناس "بفخر البنغال"، وخلدت آثارها اسمَه بين الناس؛ لذايذكرونه على مرالدهور من وداعه هذه الدار الفانية إلى الدار الباقية- بمحبة ومؤدة، وبتعظيم وإكرام؛ وسوف لاينفك جيل بعد جيل يذكره هكذا مادامت تبقى صفحة الوجود. يفتخر الناس بذكره وبذكر آثاره وباقياته الصالحات، ولاسيما بنسبة أنفسهم إليه بكذا بكذا، إلى جانب جعل أقواله وأفعاله ومذاهبه وآرائه على الرؤوس والعيون، فيكرمونها ويؤثرونها على آراء ومقترحات أنفسهم.

فيا لحظه! كم رُزق من قبول حسن!!

وماأدرا كم- ياأحبابي- من هو؟!

إنه متحلٍّ بجسارة القلب، ورجاحة العقل، وإصابة الرأي وبمكارم الأخلاق أيضا؛ قدأحدث وقائع وتواريخ تفوقنا- رجالَ اليوم- ولم يَفُقها ولن يفوق أحدمنا-على ظني-؛ جريئ فؤادا، معتدل جسدا، قوي إيمانا، فلا يخاف إلا الله، حتى كأنما حقق وأظهر في حياته فحوى ومقتضى ما قال الله -عز وجل-: "أتخشى الناس والله أحق أن تخشاه"...؛صريح لسانا، فكان يندد مواقفَ المداهنة، ويحث الأناسي على تركها، وعلى ملازمة الصراحة؛ صارخ حقا، فلايصمت عن الحق، ويصرخ به بليغا أمام أي كان من السادة والقادة، ومن رجال الحكومة الجبابرة؛ غني نفسا، فلا يلتفت إلى ما مُتعِّوابه، ولايبالي أحدا من أهل الدثور إلامن أتاه بقلب سليم منيب؛ موفور علما، مسقي شرابا من رحيق التحقيق والتدقيق في المسائل والمقاصد، جزيل حرصا على العلم، فكان يحب أن يصرم وقته كله بشغل العلم، ويدلل من قام بذلك الصنيع، فيكرمه ويفضِّله، إلامن تسرب إليه كبر وطغيان.

إلى ذلك كله كان ماشيا في طريق الإحسان والسلوك، فبرع في هذ المجال بدوره، حتى أصبح مرجعا من المراجع للمنتمين إلى هذا الطريق؛ كان ذليلا على المؤمنين، عزيزا على الكافرين وعلى المحاربين لمبادئ الإسلام، فلا يقعد حينما يُصاب المسلمون بفتن ومِحَن؛ ولاكذلك حينما يستشرف أعداء الإسلام على تشويه أسوته بأي دسيسة ومؤامرة، فيقاومهم ويكافهم.

بلّغ الرسالة وأدى الأمانة التي كان حملها الشيخ يونس مؤسس الجامعة اليونسية- رحمه الله- وكملها تكميلا يعلو قمةَ النجاح، فلعب بأكثر أدوار في سبيل استئصال القاديانية من بقعة برهمن باريا، بل ومن أرض بنغلاديش جمعاء.

قد أظل الآن أوان الجولة في أطراف حياته النافحة، فهلموا بنا إلى طائفة من صور حياته العامرة- وناهيكم بهذه النبذة اليسيرة من صوره لتتخذوها أزودة لمسير حياتكم-، لا إلى جميع صورها، بما ينفذ مداد يراعي وتضيق أرواقي قبل أن تنفذ صورها كافة؛ فأنا الضعيف مضطرّ إلى هذه الطائفة، إيمانا بأنها تنير لنا ولكم حياته المثلى.

****

بات ينشأ فتى في حجر أمه تحت جناح الرحمة، تحت ظل أسرة ذات حسب ونسب، يرعاها رجل نجيب عالم بالشريعة اسمه أنور على- وهو أبو الفتى-؛ فكان أبوه مع آخرين في الأسرة يدعوه بتاج الإسلام، متطلّعا إلى أن يكلَّل في المستقبل تاج الشرف والكرامة- وقد أكمل الله أمنيته هذه-، وذلك منذ وضعته أمه عام 1896م في قرية " بُوْبَنْ " -إحدى القرى الجامعة في مديرية برهمن باريا-.

****

ظل تاج الإسلام ينمو يوما فيوما، ويمضي طفولته ويبدي ما رُكّز في ضميره من النبل والنبه؛ هنالك تنبه أبوه النبيه لما لدى نجله من الذكاوة والنباغة، فلم يلبث أن قام بتصميمه : أن يصنع ابنه حاملا للإنسانية، وأحدًا من العباقرة الأفذاذ، فشغّله بالدراسة وفرّغه لها؛ فأولاً ألحقه بمدرسة حكومية محلية للحصول على الدراسة الابتدائية

جرى مسيره إلى التعلم والتدرّس يشهد له انقطاعه إليه وفراغه له، يحضر المدرسة كل يوم، ويؤدي الواجبات المنـزلية، حتى استظهر انطلاقاً من هذا الانقطاع وذكاوته الكتبَ المقررات من الصف الأول إلى الصف الخامس، وذلك بعد أن التحق بتسعة أشهر، على حين لم يتجاوز العقد الأوّل من عمره.

فما أبرع ذكاوته وماأكثرها!!

ومن جهة أخرى كان أبوه في الوقت نفسه يلقي عليه الدروس الإسلامية الابتدائية، ليربيه- بحد كبير- بترية وتعاليم الإسلام.

***

يلج الليل في النهار ويلج النهار في الليل، فتغدو الأيام وتغدو الشهور... فالفتى تاج الإسلام صار بمرّ هذه الأزمان المسلسلة من صباه إلى فتوّته، ومن أن يُهدَّأ عند المنام إلى أخذ المضجع وحيداً مع الجرأة، وصار من قلبه الأوراق عند القرائة لعبًا إلى إمعان النظر والفكر فيها، وإلى أن يتضلع من الدروس العلمية بجد وجودة.

هنالك أقبل عليه أبوه الكريم، لتحقيق ماكان يحلم حوله من هذا وذاك، فاهتم به اهتماما، وعقد العزم على أن يشغله بالدراسة العالية الجامعية، فأسرع به إلى مدرسة تقدِّم إلى التلاميذ دراسة مستوى عالٍ شاملٍ، فألحقه "بالمدسة العالية الإسلامية الحكومية" بسلهت- وكانت هذه المدرسة وقتئذ شهيرة في آفاق شرق الهند-، وفوضه إلى سلطتها الماهرة، وتركه في جوها العلمي.

أخذ الفتى يجدد دراسته ومثابرته، فشد ظهره غرض تحصيل العلم، ولم يمض على ذلك إلافترة قصيرة، حتى استطاع بأغرب ذكائه، وأبرق آدابه أن يبلغ قريبا من الأساتذة كلهم، فكانو يذلِّلون ويعطفون عليه، ويرشدونه بمالديهم من رخيص وثمين، وفي مقدمتهم كان الأستاذ المعظم المفتي سهل العثمانى؛ كان يحبه من أعماق قلبه ويحنو عليه حنان الأب على ابنه، ويهديه بتوجيهات كاملة، رغم ماكان يشغله كل وقت طائفةمن المسؤوليات ورغم ماكان عميد المدرسة، عالما متضلعا ذاشهرة، ومع ذلك لم يغفل عنه لحين.

بعد مضيّ فترات دراسية كملت دراسته في هذه المدرسة، فازداد ظمؤُه العلمي بشدة، حتى عناه وصيّره يفكر: كيف يرتوي؟ وكيف يَرِدُ مورداً يشفي غليله الآن؟... أخيراً يمَّم وجهه شط رالمؤسسة العلمية المشهورة في أرجاء العالم الإسلامي، شطر أزهر الهند دارالعلوم ديوبند.

***

ضرب تاج الإسلام في الأرض إلى دارالعلوم، ومعه أستاذه ومربيه الشيخ سهل العثماني يصحبه إليها لإلحاق تلميذه المحبوب بدار العلوم؛ ماأعجب صنيعه هذا!.... قد احتمل نصبا كثيرا في السفر لإلحاق تلميذه، ولتطوير مستقبله، مع أن اجتاحه هوان المشيب.

فما أفلحه معلما! وكم رُزق من إخلاص ونصحٍ للغير!!

أوى تاج الإسلام إلى جو العلم، إلى جو الدين، فأخذ يجاهد في اقتناء العلم ويشرب الدّر من منهله مواصلا، وينهمك في إمساك الأوابد العلمية واقتناص الشوارد الفنية؛ بعد ما أيقن أن هذا المنهل يبل صداه بكثرة... وأنه أصابه راحة القلب، ورحبة كبيرة في باطن صدره تُعاونه وتشجعه على نيل أوطاره، بما رأى فيه من جوّ علمي عالٍ، محلىً بحلي الإسلام وما إلى ذلك؛ وبمارأى في محتضنه رجالاً كوامل الرجولة ورواجح العقول ورواسخ الأقدام في كل مجالات وشؤون...

تشرف بالتلمذة على خيار الأحبار المفاضيل في شبه القارة كأمثال الشيخ المحدث الكبير الحافظ أنور شاه الكشميري، والشيخ شبير أحمد العثماني، والشيخ المفتي عزيز الرحمن العثماني، والشيخ الأريب الأديب إعزاز علي- رحمهم الله تعالى-.

***

كان تاج الإسلام يمتاز عن كثير من الطلاب بكثير : بسلامة العقل وجرأة القلب وبحسن الخلق والسمع والطاعة، ولاسيماً بعبقرية حافلة يندر مثيلها في كل قرن؛ لذ اتمكَّن في أيام قلائل من أن يكون أقرّ عيون أساتذته كافة . وإضافة إلى ذلك، كان من صغره شديد الحرص على العلم، فلا يستحيي من أخذ العلم عن أحد- ولو في أمرتافه-، فيتقلب من أستاذ إلى آخر، بما تعوَّد أن يتقلب سعياً وراء العلم، بأحسن آداب وأطول نشاط؛ بيد أنه طالما يخلو إلى الشيخين : الكشميري والعثماني، فيتردد إليهما حيناً بعد حين؛ وبفضل هذا قدر على أن يتدنىَّ من الكشميري دنوّ الابن من أبيه، ومن هنا صار الشيخ الكشميري يحنو عليه كثيرا ويلفت إليه نظرا مميزا، فيؤثره على الطلاب الآخرين ويدعو له وينصح له.

فكم سعد حظه! وماأكثر خلوص الأستاذ لتلميذه!!

وإليكم حديثا يمشي بكم إلى مناقشته في مسألة مع أستاذه الموقر الشيخ العثمانى وتردّده إليه حينا غب حين، وإلى مراعاته أحسن الآدب وإكثاره من المحَاولة في بلّ ظمئه العلمي؛ فاستمعواله :

((بينماكان الأستاذ العثماني يلقي المحاضرة على طلاب مرحلة التكميل في "صحيح مسلم"، إذ قام من بينهم تاج الإسلام وهو يقول: سامحني ياسيدي! لم أتمكن عن تفهّم هذه المسألة....!

فعاد الأستاذ يحاضر.....يقبل عليه ويناقشه؛ بعد برهة أعاد تاج الإسلام مقاله ذلك، على حين انتهت الحصة فغادر الأستاذ الفصل الدراسي. وفي اليوم التالي واليوم الثالث وقعت بينهما ما وقعت من المناقشة..... إلى أن قام تاج الإسلام يتخلص إلى أستاذه المعظم، ويعرض عليه في أدب وهدوء: إن كان منك رضًايا سيدى! أدخل على الأستاذ الكشميري بتلك......!

لفت الأستاذ إلى تلميذه نظرَه المشرَّب بالحب والود وقال- وفي وجهه مخايل البسمة تبرق-: " أجل، حقا...."

*******

تضلع تاج الإسلام على أيدي الأساتذة المهرة من علوم القرآن، والحديث والفقه والأدب العربى بمستوى أعلى جامعي، حتى نال الشهادة بالكفاءة من قبل الفنيين المتخصصين، وقال فيه الكشميري حبر الهند وهو يعطف عليه: "يذهب تاج الإسلام إلى ولاية البنغال وتذهب معه خزينة علمية".

فكان إذا حدث حديثا وباحث عن مسألة في أي موضوع يبدوأنه خبير بكل أطرافها، لذايرد عليه أجلاء العلماء حلاً للمشكلات والعويصات ورود التلميذ على أستاذه.

على ذلك كله قد أصاب حظا وافرا في الأدب العربي، فكان أديبا بليغا في اللغة العربية: يكتب بها وينطق كأنه من أهل لغة الضاد، يخطب ولسانه لسان خطبائها المصاقع؛ أَضِف إليها اللغة الفارسية، فكان أتقنها أيضا بقدر كبير، يكتب بها وينطق فصيحا عفويا.

كان هذا شأنه في النثر. وأما شأنه في مجال النظم، فكان يبهر كل من يسمع لذاك: ينشئ من تلقاء نفسه روائع القصائد في مختلف الأوقات، فينشدها، فكان يخيَّل وقتئذ أن شاعرا من الشعراء الفحل يُنشأ القصيدة مرتجلاً ثُم ينشدها. وهنا نأتيكم بقصة طريفة تظهركم على شأنه في هذا الصدد وتفوّقه بشأن كبير على عدد كبير؛ وهي:

"في غرة القرن العشرين أُطلق سراح المجاهد المرشد الشيخ حسين أحمد المدني رئيس جمعية علماء الهند، بعد ماوقع أسيرًا في أيدي الإنجليز الظَلَمة، (وكانوا يحبسون المسلمين وبخاصَّةٍ العلماء، فيُذيقونهم سوء العذاب، حتى يُعدمونهم شنقا، بما كانوا يحاربونهم ويقومون بثورة ضد احتلال واستعمارهم وحكمهم، وذلك تحريرًا للبلاد من أيديهم)، فألجؤوه إلى جزيرة "ملطه" (وهي جزيرة قارة اختارها الإنجليز لتنكيل من يقاومهم من العظماء والعلماء)؛ وذلك من أجل أن الشيخ كان على رأس الذين يحاربون الإنجليز ويحاولون إعادة مجد الحرية وتحرير أرض الهند من أيديهم، فحبســوه إخماداً لشعلة هذه الحركة.... ولكن هناك أتم الله نورَه- ولوكره الكافرون- فأشعل نوره: نورحركة المسلمين ضدهم، فلم يظفروا بتخميد الحركة عن إبقاء الشيخ في القيد، حتى اضطروا إلى إطلاقه، وبل اضطروا إلى الفرار من بقع الهند بعدُ.

وبمناسبة إطلاق الشيخ أعدّت جامعة دارالعلوم في رحابها حفلة ترحبية؛ فاستهل البرنامج برئاسة حبر الهند العلامة أنور شاه الكشميري على حضور جميع أساتذة الجامعة وجموع كبار العلماء في الهند.

ألقى الخطباء كلما تهم والشعراء قصائدهم يرحبون بالشيخ المدني.... قام ثلثة نفر من طلاب الجامعة لينشدوا القصائد الترحيبية، وهم: الشيخ المقرئ طيب الذي صار فيما بعدُ مفكرا عظيما في الإسلام، وشهيرا في الآفاق، ورئيسا لهذه الجامعة نفسها؛ والشيخ المفتي شفيع الذي كان مفسرا كبيرا، ومرجعا وحيدا في باكستان، وهزّأ أرضها علما وتزكية؛ والشيخ الفاضل بدر العالم الميرتي الذي اشتهر في الهند علما وعملا، ورتب شرحا لصحيح البخاري موسوما بفيض الباري؛ تقدموا-هؤلاء الثلاثة- إلى المنصة وهم على مسمع ومرأى من الشيخ الكشميري، فينظر إليهم ويتابعهم، حتى وقعت نظرته على طالب بنغالي، واقف في مؤخرهم لايتشجع لمزاحمتهم، فناداه- وعينه تبتهج- قائلا: تعالَ يا تاج الإسلام! أتيت بقصيدة؟

- نعم، ياسيدي! ان تسوغ لي أنشدها!

- أجل، فأمره الكشميري بإنشاد القصيدة أولاً.

أنشأ تاج الإسلام ينشد قصيدة الترحيب ممزوجة بالمدح للشيخ المدني والتنديد على الإنجليز، والحضور يطربون منه ويرحبون به -المنشد-، وفي طليعتهم الشيخ الكشميري.

أنهى تاج الإسلام قصيدته واستعد للعودة إلى مقامه، عند ذلك هب إليه الكشميري وهو يقول تعجبا منه! أأنت أنشأت أم الحافظ السراجي؟ -هو شاعر مشهور من الشعراء الفحل في الأدب الفارسي- فأجاب تاج الإسلام في هدوء وسرور: أنشأت أنا ياسيدي! قد أدركت من بقايا بركات السراجي.

وفي هذه الناحية كانوا- ثلاثة نفر- يلمحون كل ذلك: شأن تاج الإسلام في إنشاده، وشأن الكشميري في إعجابه، وشأن الحضور في طربهم، ففقدوا الجرأة ولم يقبلوا...

***

أتم تاج الإسلام دراسته العليا في أزهر الهند دار العلوم، فتخرج فيها وقد أترع قلبه بنور العلم والمعرفة، وصبغ نفسه بصبغة الله (الذي قال- عز من قائل-: صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة)، وكوّن حياته على ضوء الكتاب والسنة، فدخل في السلم كافة (وقد قال الله تعالى: ياايها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة....)

تمكن من أن يبهج عيون أساتذته بأغرب موهبته وأحسن أدبه وأفضل عمله وأن يلفت أنظارهم إلى نفسه، وإلى أن يفكروا في حياته المستقبلية، حتى اتفقوا على تعيينه مدرِّسًا ومعلما في نفس دار العلوم؛ ولكن الله تعالى أراد- وهو فعّال لما يريد- أن يعود تاج الإسلام إلى وطنه وينشر العلم فيه، ويرشد المسلمين فيه إلى الحق والدين الخالص؛ فلم يستطع أن يواقفهم تاج الإسلام على اقتراحهم، امتثالا لأمرأبيه بالرجوع إلى الوطن، فتقدم إليهم معتذرا وأطلعهم على أمر أبيه، فأقبل عليه الإمام الكشميري قائلا وهو يتلهف:" اذهب إذن، إن أمر الوالد أقدم وأجدر بالقبول".

***

عاد إلى مسقط رأسه: إلى بلاده بنغلاديش، يريد نشر العلم بين قاطنيها، وتزويدهم بالعقائد الإسلامية الصحيحة، وتزكيتهم عما يشينهم ويغفلهم من البدع والمحدثات، مع تحليتهم بالمكارم والفضائل.

فتوجه في بادى الأمر إلى المدارس الأهلية، معتنيا بالتعليم والتدريس فيها،

لما كانت هي تلعب بأعظم الخطوات في نشر العلوم الدينية، وإرشاد المسلمين إلى سبيل الرشاد، فاختارها ثكنة لتحقيق رسالاته وأهدافه؛ ومن ثم تحصن أولاً بمدرسة أهلية بمديرية "كملاّ"-وهي تسمى الآن بالمدرسة الملية-، فتعلق بها وصار يدرِّس فيها ويقوم بمسؤوليتها جيداً.

بعد ما غبر من الزمن طلع على برهمن باريا متحملا أمر الرئاسة للجامعة الإسلامية اليونسية، وذلك عقيب ماقدم سلطة الجامعة إليه اقتراح الرئاسة، لما رأوا ما في علمه وحلمه وحذقه وبراعته من الكفاءة ما تكفل تطوّر الجامعة تعليما وتربية، وما تضمن رسالة الدعوة إلى دين الإسلام ومبادئه، وإلى التمسك بحباله وإلى نبذ الشرك والبدع؛ فاغتنم هذه الفرصة ووافق على ذلك.

طفق الشيخ تاج الإسلام يشرف على كل شؤون الجامعة بجد وجودة، إلى جانب تدريس الطلاب وتربيتهم... فلم تكن إلا أيام حتى أصبحت الجامعة في مسير التقدم في كافة المجالات، وتنبت نشاطاتها من جديد؛ وتنفخ في قلوب الطلاب الوافدين إليها روح الإيمان، ووعي الدراسة الإسلامية، وقيم التربية، مع ترسيخ الإيمان في قلوب العوام وتسليحهم بتعاليم الإسلام إضافةً إلى حثّهم على الاعتصام بحبل الله.

***

وإضافة إلى ذلك، كان عُني بالمشي في طريق مشايخ الطرق، فاجتهد اجتهادا كبيرا، وتقدم تقدما كثيرًا وغاص في لج هذا البحر العميق... كان يذكر الله على كل أحيانه، يصرم ليله ونهاره بأفعال الخير، وبعبادة الله وبذكره وبتفكر في خلقه، مما جعله مرجعا لرجال العلم ورجال الطرق في وقت معاً؛ كما كان زاهدًا في الدنيا: فيما في أيدي الناس من عرضها؛ وراغبا في الله عما يعوقه في سبيله وعما يتمنّاه الناس من الجاه والمال....

وعلى الرغم من ذلك سقطت الدنيا- كالأموال والمناصب العليا- تحت قدميه، فلم يركن ولم يلتفت إليها.

((ذات مرة توجه إليه القائمون على جامعة داكا وعرضوا عليه أن يشرِّ فهم بقبول منصب العمادة لقسم اللغة العربية التابع لها- جامعة داكا-، وأصرّوا عليه وتضرعوا إليه؛ ولكن فخر البنغال صمت هناك وألحّ في الصمت، ولم يرض به، انطلاقا من تعوِّده المتمثل في رد المناصب الحكومية.

ومن ذلك أبى أن يقبل الرئاسة للمدرسة العالية الإسلامية داكا -وهذه المدرسة مؤسسة تعليمية إسلامية حكومية كبيرة تحتضن ألو فامن الطلاب الذين ينالون الشهادة الماجستيرية منها في علوم مختلفة-. وكذا أبى أن يكون أستاذً الحديث بالمدرسة العالية بكلكته -وهي مدرسة شهيرة نالت منزلة عالية في أرجاء شبه القارة الهندية-.

***

ومن أجلّ مزايا شخصيته جرأة قلبه وقوة إيمانه مع الخشوع لله والتواضع أمام خلقه- فلا يخاف أحدا إلا الله؛ وامتلاكه لسانَ حق، فلا ينطق إلا بمايظهر الحق، ولايسكت إذارأى محاربا للحق، من دون التفات إلى أية شوكة وقوة؛ لذا كان يهابه حتى رجال الحكومة الذين يأمرون وينهون في البلاد وكان يطيعه الشعب ويذل أمامه الجبارون.

فإليكم حديثا في ذلك:

"في منتصف القرن العشرين كانت منطقة مايسمىَ اليوم بنغلاديش داخلةً في حكم باكستان، وكانت تدعىَ بباكستان الشرقية، وذلك بعد أن تحررت دنيا الهند من حكم الإنجليز، وقامت للسكان المسلمة دولة مستقلة باسم "باكستان".

ففي مطلع عقد السبعينات احتل القائد العام العسكري الباكستاني " أيوب خان" كرسي الحكم في دولة باكستان كافة جبرا و قهرا، وأقام الحكومة العسكرية في ربوعها جميعا، فطفق يجبر الزعماء ويضطهد العظماء، ويصدر أحكاما تخالف الإسلام، ويضع دساتير تهدم المجتمع الإسلامي ديانة وخلقا.

عند ذلك قام ضد هذا الرئيس الظالم كثير من الزعماء والعلماء، وانقضوا على الحكم العسكري والحكومة الأيوبية إهباطا وإزالة، ومن هؤلاء شيخنا فخر البنغال؛ فقد نهض بأعظم خطوة في إسقاط هذا الحكم وهذه الحكومة.

فذات مرة كان عُقد في برهمن باريا مؤتمر إسلامي وطني تحت رئاسته؛ استهل البرنامج، وحضر في المؤتمر زعماء برهمن باريا ورجال الحكومة من بين الحكام والمحامين والشرطة؛ فصار الخطباء يلقون كلماتهم... إلى أن جاءدورُ فخرالبنغال، فقام يخطب، وبدأ، بيد أنه اتخذ الموضوع بيانَ اضطهاد الحكم الأبوبي وجرائمه، فعارض في كلمته الحكومةَ الأيوبية شديد المعارضة، وندَّدها عنيف التنديد، فقام رجل من رجال الحكومة يمنعه عن ذلك ويخوِّفه، ولكن فخر البنغال هناك لم يمتنع ولم يبال تخويفه، بل توجه إليه موعدا وموبخا حتى بُهت الرجل، وجلس في مكانه.

أفرأيت- ياقارئ المقال- جرأته ومغامرته! يندِّد الحكومة على حضور عمالها، على رغم أنوفهم، على خوف لحوق الأضراربه! وهو لم يبال ذلك ولم يوجس منه خيفة!

إيمانه القوي وقلبه الجريئ هذا مكّنه من كفاح المضلين والأعداء المعادين للإسلام، فاحتمل في ذلك مشاق كثيرة؛ حارب ما امتدت به الحياة القاديانيين قمعا لجراثيهم من ظهر الأرض. وذلك أن القاديانيين كانوا يتحدون أهلَ الحق، كما كانوا يعقدون حفلات المباحثة والمناظرة لإثبات مذهبهم، وإبطال الحق المبين؛ فكان الشيخ فخر البنغال يقبل تلك التحديات حسمالها، وينتصر عليهم بلسانه المصقع وعقله الحازم وعلمه العميق وبتوفيق الله تعالى نصرًا مؤزرا.

وليست مواجهته لتلك التحديات في مدة إقامته ببرهمن باريا فحسب، بل كان يواجه تحدياتهم الباطلة منذ نزل بدار العلوم ديوبند لتلقي العلم، فناقشهم وناظرهم شفهيا بمحضرجموع المفاضيل كأمثال الكشميري والعثماني والمفتي عزيز الرحمن -رحمهم الله-، وهزمهم هزيمة حاسمة وغلب عليهم.

فذات يوم عقدت حفلة المناظرة بين أهل الحق والقاديانيين في دهلي، على حضور طوائف من عظماء الإسلام ونقباء الأقوام؛ جرت بينهم المناظرة، وادعى القاديانيون أن الأشعار التي أنشأها غلام أحمد القادياني هي وحي من الله، وتحدَّوابها؛ هناك قام تاج الإسلام- وكان حينئذ طالبا- ينبط لهم الجواب بأمر أستاذه الكشميري، فأثبت في بادئ الأمر أن الوحي لم يكن ولن يكون قط شعرا, وأنه لاينبغي لنبي أن ينشئ الأشعار... ثم أنشأتاج الإسلام على الفور سبعين بيتا تحمل أهمية ختم النبوة، وتكشف أخطار القاديانية، وتسفر عما في أشعار غلام أحمد من الأخطاء النحوية واللغوية، فبُهت الذين كفروا- القاديانيون- وتاب كثيرون.

سرّ الحضور وجموع المسلمين بذلك سرورا، وارتضوا عن تاج الإسلام كثيراً وظلوا يظهرون رضاءهم بأغرب صورة حتى صاروا يدعونه "بفخر البنغال"، ومن ذا الوقت عُرف بهذا اللقب العظيم.

هذا، وبفضل مساعي فخر البنغال المثمرة هذه، نرى الآن أرض برهمن باريا وضواحيها لاتُقلهم- القاديانيين- بكثير، ولولم يكن الشيخ قام بذلك لأثخنوا في هذه الأرض.

***

تطلع الشمس صباحا، وتجري طوال اليوم تفيد الخلق وتخدمهم بأشعتها الذهبية... وفي العصر تميل إلى الغرب، كذلك فخر البنغال وصل إلى نهاية مطاف الحياة بعد أن قام بهذه الخدمات الجليلة.

ولاريب أنه يسركم أن تعلموا قصة وفاته، فإليكم القصة:

((كان الوقت ضحًى وكان اليوم اليوم الثالث من إبريل من عام 1967م، وكان آخذا مضجعَه في مستشفى كلية الطب داكا، من مرض شديد أصابه، عندما آن أوان السفر الأخير في حياته إلى لقاء رفيقه الأعلى. فاضت روحه وحوله عصابة من العلماء، ويداه مرفوعتان ولسانه ينطق! "لااله الا الله والله اكبر".))

فما أروع هذا المشهد!! وكم كان رُزق من ذكر الله!! يذكره وهو يعالج الرمق الأخير، بماتعوّد أن يذكر الله على كل أحيانه.

مضى فخرالبنغال يترك ورائه جما غفيرا من الأتباع والقاصدين، وخدمات كثائر. جزاه الله عن الإسلام والمسلمين وأكرمه بالجنة التي وُعد المتقون.

اترك تعليقاً