الأستاذ/ أبو بكر
يَاسَادة! أريد منكم أن تأخذوا أقلامكم بأيديكم، وتجمعوا أذهَانكم وتكتبوا كل صفة تتمنون أن يتصف بهَا كل من يروم العلا في نفسه وأهله، وفي أمَانته وسيَاسته، وفي لينه وشدته... حتى إذا اكتملت الصورة الخيَالية التي صورتها أمَانيكم وآمَالكم... جئتكم بأحَاديث رجل من رجَالنَا السَابقين الذين أنَا روا التَاريخ، رجل يعدل مَاتمنيتم آنفَا، أو يزيد على ذلك.
هو ناشر للعلم، ممثِّل لحياة معلم ناجح، وكانت حَياته المثالَ الكامل لما يمكن أن يبلغه خيال أديب قصَاص, أو أمل عالم مصلح.
صَانع الرجَال، كان نموذجًا من النمَاذج التي لاتُرى إلا مرة واحدة في القرون الطوال، وليس من أمثاله في تواريخ الأمم كلهَا إلا آحاد. كان عَالمًا: العلمَاء الكبار تَلامذةٌ أمَامه، وكان كاتبا: الكتاب البلغَاء يمتصون ممَّا يخرج من فيه، وكان ديِّنًا دين فعل لادين قول، دين إخلاص وخلوة، لادين ريَاء وإعلان؛ كان متواضعًا لله حتى ليكبر عنده الصغيرُ المسكين، ومشتدّا لله حتى ليذل عنده الطاغية الجبار؛ على ذلك كله كان يعيش عيش الفقير مع احتلاله أعلى المكان.
هو الرجل المرموق الشيخ الكبير شمس الحق بن عبد الله الفريدبوري المولود بقرية "غَوْهَرْدَنكَا" بمديرية فريد بور؛ فسلام يوم وُلد -يوم الجمعة عام 1898م-. وهذا الرجل العظيم لورحت أستقصي لكم أخبَار حَياته المترعة نجاحَا وكمالا، لطال الكلام وضاق المقَام، لذا رأيت أن أذكر لكم صورًا من حياته تشفي غليلكم (في زعمى)!
***
على الرغم من مكانه في طليعة العمر ومكانه في مشرف الدراسة الدينية قدقام طلبًا للعلم برحيل طويل منقضً ظهَر السافر، فسَفر إلىٰ بقعة قَاصية، إلى "تَهَانَاوَنْ"- منطقة مشهورة في مديرية سهَارنبور بشمَال الهند-.
أوى في بداية الأمر إلىٰ زاوية مرشده ومربّيه حكيم الأمة الشيخ أشرف علي التهَانوي، ليستفيد منه وليشم من بركاته؛ فأقام هناك أيَّامًا وأسَابيع وفي صدره رغبة ملحة بالدراسة الإسلامية، فاستشار شيخَه في ذلك، فأشار عليه أن يكمل الدراسة الثانوية في جَامعة مظاهر العلوم سهارنبور، وأن يكمل الدراسة العليَا في دار العلوم ديوبند. وفي الوقت نفسه ولّى وجهه شطر "مظاهر العلوم" بسهَارنبور، وفيا لمشورة شيخه بتكميل الدراسة الثانوية فيهَا؛ فبعد سنين... فبعد أن تمَّت عليه الدراسة الثانوية انطلق إلىٰ دارالعلوم ديوبند.
وبفضل هذا السفر إلىٰ دارالعلوم تشرَّف بالتلمذ على الكبار الأفذاذ الذين يشار إليهم بالبنان، وتُظن صحبتهم للحظة من البركة والسعَادة، كأمثال الشيخ أنورشاه الكشميرى، الشيخ شبير أحمد العثمَانى وشيخ الأدب إعزاز علي، والمفتي عزيز الرحمٰن- رحمهم الله-.
****
التجأ إلى جوّ علمي، إلى جو يبدي له البركة والنور.... فشد مئزره منهمكا في تلقي العلم عن هؤلاء الكبار؛ وفي حين تعلق ببَاله أنه لابدله من أن يزكي نفسه على بصيرة شيخ كامل العلم والعمل، وأن يملأ قلبه بنورالعلم والإحسَان وبنور معرفة الله، فاهتم بذلك اهتمامًا، وعقد العزم على الانقطاع إلىٰ شيخه ومربيه أشرف على التهَانوي الذي كان مرجعًا للعلماء في وقته، ويجتهد في تزكية نفوس القاصدين ويقدم إليهم حول ذلك توجيهات كامِلة... فالتجأ إلى ظله واطمئن إلىٰ حضنه، تلقيّا منه توجيهَات حول أمله، فخصص له نفسه حتى كاد يضحي له بهَا.
وكان يختلف إلىٰ شيخه حينا فحينا للتبرك بصحته والاتعَاظ بنصَائحه، ولتحقيق مَايشاهد في شيخه من مكارم الأخلاق وأسرار الإحسَان في نفسه، وفي سبيل ذلك صبَر على كثير من المشاق والكلف الهَائلة: صبر على نصب السفر, وعلى وجع تقطع الأمعَاء من شدة السغب، وعلى ورم العين من كثرة السهر ومَاإلى ذلك؛ وكان يمضي إلىٰ زاوية شيخه التي كانت في تهانَاون على بعد 35 ميلًا من ديوبند، فيمضى إليها من ديوبند كل خمِيس بالمشي على الأقدام، ثم يرجع منهَا مسَاء الجمعة التالية، بعد أن تلقى عن شيخه شيئًا من رحيق علم الإحسَان.
فمَا أكثر اجتهَاده! وهذا الجهد البليغ وهذه المثابرة أبلغته أن نال الإجازة وشهَادة الكفاءة من عند شيخه بمر أيّام قلائل.
*****
رجع الشيخ الفريدبوري إلىٰ وطنه بعد أن قضى أروع أيَّامه وأغناهَا في دارالعلوم ديوبند، وبعد أن قضى أحلى أيَّامه في نَاحية شيخه بتهَاناون؛ رجع وقلبه مترع بنور الإيمَان، وبين جوانحه تتأجج عزة الإسلام؛ هدفَا إلىٰ نشر العلم في ربوع الوطن، وإعلاء كلمة الله فيها، فاختار أمر التدريس في المدارس الأهلية واتخذهَا ثكنة لتحقيق هدفه.
جعل يطأ الأرض قَاصدًا الجامعةَ الإسلامية اليونسية ببرهمن باريَا، حتى قدم عليهَا- فسلام يوم قدم...- ونَاء بعبئ مهمَّة الرئاسة لهَا، ومَا أن قدم على الجَامعة وتشرف بقيام هذه المهمة الضخمة حتى اعتنى بتطويرهَا في كافة المجالات أكاد يمية واقتصَادية؛ فكَان لايتفرغ للحظةٍ عن الفكر فيهَا وعن الإشراف على كل شؤونها قلت كانت أوجلت، فيسعىٰ أن يؤدئ مسؤوليَّته حق الأدآء.
وبفضل سعيه وفكره الدائم تحقق للجامعة يوم التقدم والترقي مع أنواع النشاطات، ولكن ياليتني ! لو شهدت الجَامعةُ إقَامتَه بهَا لفترة طويلة ! أقام بهَا مجرد أربع سنين، ثم هَاجر إلىٰ داكا عَاصمةِ بنغلاديش.
******
توطن بداكا، ووجّه وجهه نحو تعميرهَا على طرازالدين، ورفع قواعدهَا على بنية الإسلام، وفي الوقت ذاته جعل يشجعه صَاحبَاه وزميلاه: الشيخ محمد الله المعروف "بالحَافظي حضور" والشيخ عبد الوهَاب البرجيّ، فكانا يشدانِ أزره في تحقيق تصميمَاته التي رسَّمهَا لبناء داكا على نمط الدين -مع المدن الأخرى في دولة بنغلاديش-, ولنشر العلم في أرجَاءهَا ودعوة أهلهَا إلىٰ الإيمَان.
ومن قصد تحقيق تصميمَاته جعل أكبر هممه وأعظمَ نشاطاته تأسيس المدارس والمعَاهد الدينية في مختلف المواضع بداكا نشرًا للعلم وتزويدا للناس العقائد الصحيحة؛ فأولا أسس "مدرسة أشرف العلوم" في "بَرَاكَتَارَه"؛ ثم أسّس مدرسة أخرى بلال بَاغ باسم "المدرسة القرآنية العربية"، إضَافة إلىٰ مدرسة بفريدآباد. ولم يقتصر على داكا بناء المدارس والمعَاهد فقط، بل بنى كثيرا منها في مختلف الأمَاكن في البلاد، كما أسّس مدرسةً بمسقط رأسه "غَوْهَرْدَنكا"؛ وفضلا عن هذه المدارس أسس كثيرا من الكتاتيب والمكتبات والهيئات الفكرية الإسلامية في شتى المواضع في البلاد.
وهذه المدارس والمعَاهد أصبحت تنشر العلم على وجه متواصل، على نهج أهل السنة والجمَاعة، من أول يومهَا حتى اليوم، بجَانب أن تنفخ الإيمان في قلوب المؤمنين، وتقيم السنة في مجتمعهم وتقمع البدع منه.
فمَا أشمل خدمَاته ومَا أكمل!!
والشيخ كان يهتم- بجانب هذه الخدماَت- بدعوة الناس إلىٰ تزكية نفوسهم، فأرشد جماغفيرا وزكى نفوسا كثيرة، وأصلح أقواما.
***
يَاسَادة! مَا تدرون به؟
... علام رباني يحب السنة النبوية- على صَاحبهَا ألف سلام- من أغوار قلبه، يؤثرهَا على كل في كل مجَال- ولو لحق به من ذلك أي ضرر-، يمتلك قلبا يخشع لله ويوجل له، وعينا تفيض من الدمع من خشيته، وصدرًا ينشرح للإسلام والإيمان انشراحَا.
آثر الآخرة على الدنيا بكل أنواعهَا، فلم يركن إليها كأنها في نظره لاتزن جناح بعوضة. اختار عيش الفقر، رغم مَا سقطت الدنيَا تحت أقدامه. عَاش عيش البسَاطة في كل اُموره: في مسكنه وملبسه، مأكله ومشربه، وفي السلوك مع كل... مما تخفي على زواره مكانتَه، فلا يعرفون في المرة الأولى أن له مكانة عَالية بين العلمَاء والزعمَاء في داخل البلاد وخَارجهَا.
كان مؤسِّسًا ورئيسًا في وقت معًا لعدة من الجامعَات والمدارس، ولكن مع ذلك ليس له مكتب ولاغرفة مخصوصة رائعة في أية منهَا- أي هذه المدارس-، يجلس مع المدرسين في المكتب العام للمدرسة ويتحدث معهم ويراقب منه أمور المدرسة؛ غير أن له غرفة في المدرسة القرآنية بلال باغ يقيم بهَا ليلَ نهَار...
ألم تَرَ ياصديق إلىٰ غرفته هذه؟... صغيرة ضيقة قاسية في مبنى قديمٍ جدا، لاتبلغهَا الشمسُ فتحيط بهَا الظلمَات حتى في النهَار- فمَا ظنك بهَا في الليل؟!-
وهل سَمعتَ عن الأثث فيهَا؟... سرير رخيص كاد أن تنقضّ قوائمه من قِدَمه... وحصير في الأرضية يجلس عليه ويصلى. يأتيه الناس من أقصى البلاد وأدناهَا فيستقبلهم فيهَا.... ثم ينصرفون وقلوبهم تنطق مع إستغراب: "مَا أعظم هذا الرجل!... ومَا أبسط عيشه... شتّان بينهمَا- بين عظمته وعيشه-!
يَاساَدة! كان هو نجمًا ثاقبا ينير الآفاق ويهدى العابرين السبيلِ... إلىٰ أن مَال عَام 1965م إلىٰ جوار رفيقه الأعلى.
رحمه الله تعَالىٰ وأدخله فسيح جنانه.