سطور حول الأستاذ الدكتور جسيم الدين الندوي البنجلاديشي رحمه الله تعالى

الكاتب : خريج جامعة دار المعارف الإسلامية شيتاغونغ، بنجلاديش وخريج جامعة داكا من قسم اللغة العربية وآدابها، وطالب جامعة الملك سعود الرياض، بالمملكة العربية السعودية.

ما أحسن هذا اليوم الأخير لأستاذنا الحبيب! وما أجمل هذه الوفاة لشيخنا الودود! كان مسافرا في سبيل الله، كانت معه والدته الحنون وزوجته الودود لزيارة بيت الله الحرام، ولأداء العمرة لله.. فأدى شيخنا العمرة، وشعر بأن أصابه المرض، فتم إدخاله في مستشفى الملك فيصل بمكة المكرمة، وقضى هناك عدة ساعات، إذ جاءته الوفاة، ورفعه الله إليه.. قدر الله له وفاة مباركة في بقعة مباركة في جوار بيته الحرام... وهو الآن ضيف من ضيوف الرحمن في الحرم المكي، وأحد من المدفونين في مقبرة المعلاة! فيا له من شرف عظيم، ويا لها من منة ربانية!! صلى عليه مئات الآلاف من المصلين والمعتمرين خلف إمام الحرم! ودعا له إمام بيت الله العتيق، ودعا له ضيوف بيت الله العظيم!! ثم قدر الله له جوار بيته.. دفن في أشرف البقع، التي دفنت فيها أم المؤمنين خديجة بنت الخويلد رضي الله عنها، زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم الأولى، وعبد الله بن زبير، وأمه أسماء بنت أبي بكر وكثير من أعلام الإسلام من الصحابة والتابعين وكبار العلماء والصالحين.. يبعث يوم القيامة أستاذنا الحبيب مع الصحابة، ومع المحسنين من الأمة بإذن الله تعالى.. فيا لها من عظمة حظ، ويا لها من روعة نصيب!! قل من ينال هذا الشرف! ندر من فاز بهذه النعمة العظيمة... كان محظوظا في حياته، ومحظوظا بعد مماته بإذن الله تعالى.. ويا له من قدر الله تعالى.. جذبه من بنغلاديش النائية لينال هذه القربة المحسودة!!

مع ذلك....... ما ظننا أن توافيه المنية في مثل هذه الأيام، كنا نأمل أنه يبقى فينا وقتا طويلا، وتستقر على رؤوسنا ظلاله زمنا بعيدا، قبل أن نستفيد من حياته المباركة، قبل أن نستنير بأفكاره السامية، قبل أن نستضيئ بقبسة من قبسات علمه الجم، لبى داعي ربه، وتركنا للأبد، وزالت عن رؤوسنا ظلاله الوارفة...ولا نرى في شفتيه الابتسامة الحلوة، ولا نسمع من فيه صوتا يصاحبه الحب، ولا نجد منه خططا مختلفة للأنشطة الطلابية، ولا نجده يفكر لنا ولجامعتنا الحبيبة.. ففقدت جامعة دار المعارف الإسلامية مربيا ومحسنا على وجه الخصوص، وففقدت الأمة عالما ربانيا، وداعيا كبيرا على وجه العموم.

قبل أربعة أيام، اتصلت بأستاذي عفيف فرقان المدني حفظه الله تعالى، أخبرني بأن الأستاذ جسيم الدين الندوي في مكة المكرمة الآن، هو يسافر إلى الرياض في نهاية إبريل، ويكون رفيق سفره إن شاء الله.. قبل أن نستضيفه في الرياض بلغنا نعيه المفجع، اللهم اغفر له، واجعل الفردوس مأواه..

قد سنحت لي الفرصة لأن ألازمه زمنا طويلا، منذ طفولتي إلى يومنا هذا.. رأيته من كثب، وجلست أمامه للتلقي، قرأت عليه عدة مقررات.. أنا أتذكر ذلك اليوم، اليوم الذي وجدناه فيه أول مرة يدخل علينا ليعلمنا النحو العربي.. كنا طلبة الصف الثاني من المرحلة الثانوية بجامعة دار المعارف الإسلامية، وهي يدرسنا الجزء الثاني لشرح ابن عقيل.. فتعرف علينا، وألقى فينا خطابا يشجعناعلى مزيد من الحرص على طلب العلم، والتفاني له.. وقرأنا عليه في كلية الشريعة أصول التفسير، والقواعد الفقهية، وأصول الفقه، ثم قرأنا عليه الجزء الثاني من جامع الإمام الترمذي، وكتبت بحثا تكميليا في السنة الرابعة للجامعة تحت إشرافه..

كانت حياته حياة علم، حياة في طلب العلم، وحياة مع أهل العلم.. قضى جل حياته في خدمة العلم.. سمعت شيخنا وأستاذنا فرقان الله خليل -حفظه الله تعالى- في حفلة تكريم وتوديع لمناسبة رحلة الأستاذ جسيم الدين الندوي إلى جامعة الأزهر الشريف بمصر يثني عليه ثناءاعاطرا، ويذكر محامده ومزاياه، ويذكر مشقات السفر التي تحملها لأجل العلم.. بدأت حياته العلمية في السن المبكر في مدرسة الحي، ثم درس في الجامعة الإسلامية بفتية وتخرج فيها، ثم درس في جامعة دار المعارف الإسلامية، ولازم فضيلة شيخنا الأستاذ العلام محمد سلطان ذوق الندوي.. وكان الشيخ معجبا من أخلاقه، وتفانيه للاستزادة من العلم.. بعد ذلك، بإشارة من شيخنا ذوق الندوي سافر إلى دار العلوم ندوة العلماء بلكناؤ في الهند ليستفيد من إمام العصر سماحة الشيخ الداعية الكبير السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي -رحمه الله تعالى-، وكانت حياته في الندوة حياة تلق واستفادة، حياة طلب واستنارة.. فأثرت فيه الندوة أحسن تأثير، غرست فيه بذرة الفكر للإصلاح والتجديد.. والجهاد للدفاع عن الدين.. وجعلته داعيا إلى الحق بقلبه ولسانه، وأفكاره وقلمه.. وولوعا بالأدب العربي، وشغوفا بلغة القرآن.. ثم زادته عطشا نحو العلم وأهل العلم... فأتى به هذا العطش إلى الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، قرب رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فقضى فيها وقتا جميلا، ودرس في كلية الشريعة، وشارك في حلقات العلم في المسجد النبوي، وأخذ الإجازة في رواية أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- من مشائخ كبار بالمسجد النبوي.. قد سمعت مرات شيخنا الأستاذ سلطان ذوق الندوي يقول في شأنه، كان جسيم الدين الندوي طالبا متميزا في الجامعة الإسلامية، وطلب مني المدير لأن أبعث مثل الطالب جسيم الندوي إلى الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. يشهد أقرانه على تفوقه وتميزه، وإخلاصه للإسلام وأهله.. لم يرتو شيخنا، بل ازداد عطشا، وهذا العطش جعله مختلفا من باب إلى باب للاستزادة في العلم.. كأنه يطبق دعاءا علمناه ربنا "رب زدني علما".. ثم ذهب به عطشه إلى جامعة الأزهر، ليتلقى من مشائخها الكبار، والاستفادة منهم.. فمكث هناك ثلاثة أشهر طالبا للعلم.. حصل على درجة الماجستير في الفلسفة من قسم القرآن والدراسات الإسلامية بالجامعة الإسلامية بكوشتيا، وكان عنوان بحثه "الفتسير المأثور عن علي بن أبي طالب واجتهاداته"، وحصل على الدكتورة من الجامعة نفسها بأطروحته المعنونة بـ "أساليب الدعوة الإسلامية ووسائلها في القرن العشرين" عام 2017 الميلادي.

كنت واحدا ممن تحسسوا بحب عميق في قلبه.. وازداد هذا الحب حين دخلت في حياة جديدة، وصرت عضوا من أعضاء أسرة الأستاذ فرقان الله خليل المحترم، يدعوني بصوت يتقاطر منه الحب، ويتقاطر منه الاحترام للأستاذ فرقان الله خليل.. يدعوني بـ "عزيزي"، أو "صهري" أو "صهر أستاذي الخليل".. كان دعاؤه هكذا يسرني، ويدخل في قلبي الاعتزاز.. حين كنت طالبا في جامعة داكا يرسل إلي رسائل عبر البريد أو واتساب.. ويشجعني فيها على المواظبة على إعداد البحوث والمقالات في مختلفة المواضيع..

من أخلاقه النادرة، ومن شمائله التي ميزته عن غيره أنه كان ينسى كل ما حدث بينه وبين طلابه أو أقرانه.. بعد أن غضب بقليل ينسى غضبه، وينسى السبب الذي أغضبه.. غضب علي مرة حين كنت طالبا في دورة الحديث لغيابي عن الدروس، ثم نسي غضبه، وضمني إلى صدره، وجاء بيتي، وتحدث مع والدي.. وجدت فيه قلبا رقيقا، قلبا عطوفا يذوب ذوبان الشمع عند النار.. رأيته يتألم ويلتاع حين أصابت المصيبة أمة الإسلام..

له مشاركات في مؤتمرات علمية دولية، شارك في المؤتمر الذي عقدته جامعة داكا بالتعاون مع مؤسسة إسطنبول حول الدراسات النورسية في بنغلاديش، كنت أعددت أيضا بحثا لإلقائه في المؤتمر. حين أخبرته بهذا المؤتمر سر سرورا شديدا، وأبدى رغبته الجامحة في المشاركة فيه بالبحث العلمي، وقال: له دراسات متعمقة حول هذه الشخصية العظيمة سعيد النورسي، وأفكاره وسياسته وأعماله الإصلاحية. قبل ذلك شارك في مؤتمر دولي بسريلانكا بالبحث العلمي.. رأيناه ولوعا بالكتب وجمعها ومطالعتها، ولوعا بالمكتبات وابتكاراتها. كان يحب أن يعيش بين الكتب، وأن يعيش مع الكتب.. يمشي وهو يحمل كتابا بيده، يسافر وهو يحمل معه كتبا.. يحثنا على مطالعة الكتب، وأن نحفظ أسماء الكتب، وأسماء الشروح وتراجم مؤلفيها.. ويحرضنا على التحدث باللغة العربية، والكتابة باللغة العربية..

كأني أشعر بأن جامع أبي ذر الغفاري رضي الله عنه لجامعة دار المعارف الإسلامية يبكي، لأنه قد فقد خطيبه، وفقد الرجل الذي يتحدث من منبره إلى الجمع، وينشر منه دعوة الإسلام، وعلوم النبوة.. ومن منبره يربي أبناءه، ويقص عليهم قصص الأبطال ونجاحهم، ويبث منه حماسة الإسلام وشهامته، وكرم أهل الإسلام وبسالته.. وأشعر بأن المحافل الأسبوعية والشهرية للأنشطة الطلابية للجامعة ترثي على فقيدها، وتتوجع له وتعدد محاسنه وفضائله.. قبل عدة أيام، في المسابقة السنوية، مثل بقصيدته التي قرضها متألما بالمجزرة التي أحدثها الإرهابي الأسترالي.. فيا لها من أبيات نبعت من قعر قلب، ووصلت قعر القلوب وحرّكتها.. يعاشر أبناء الجامعة مع رحابة الصدر، ويباشر أعمالها مع الهمم العالية، كان من أصحاب الفتوة والحمية، موفورا بالحيوية، مفعما بروح التطوع..

شهدت جامعة دار المعارف الإسلامية أعماله لأجلها، وتفكيره لأجلها، أخذ مبادرات ومشاريع، أنجز بعضها، وكان لا يزال يعمل لينجز بقيتها، ولكن قبل ذلك وافاه الأجل.. في آخر أيامه من حياته مارس السياسة، ونشر أفكاره ونيته موضحا موقفه من مباشرته السياسة في موقع التواصل الاجتماعي.. نحن نتمنى أن الله تعالى يغفر له، ويجعل الفردوس مأواه.. ويلهم أهله وذويه الصبر الجميل..

لا تريد الأنامل أن تتوقف من حركاتها على لوحة المفاتيح، وكأن القلب قد انفتح لصب ما فيه من تعبير وعواطف حول أستاذي وشيخي الدكتور محمد جسيم الدين الندوي- رحمه الله تعالى-... وكأن الخيال يستحضر لي ما فيه من ذكريات... وكأن العين تسترجع لي ما رأت، وكأن السمع يستعيد لي ما سمع...... فيا لها من أيام كنا في حنانه.. تحت إشرافه... تغمده الله تعالى بواسع رحمته، وجعله ضيفا في فردوسه..

اللهم اغفر له، وارحمه وعافه، واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارا خيرا من داره، وأهلا خيرا من أهله، وأدخله الجنة، وقه فتنة القبر وعذاب النار.



اترك تعليقاً