كان الوقت ضحىٰ (٨-٢-٢۰۱۰م) وكنت في البيت مشتغلا بعمل عَائلي إذ واحد من الإخوان اتصل بي بالجوّال يخبرني قائلا: أبلغك ياسيدي نبأ وفاة شيخنا صباح اليوم...
فما كَادت كلماته تلامس سمعِي حتى نزل علي الخبرُ نزول الصَاعقة، وأصَابني ارتعَاد لاأعرفه وأرسلت عيناي دموعَا... وأنسيت إتمامَ العمل بالضبط، وكذا التناولَ... ومَاأسرع أن خرجت إلى مسكن الشيخ ثم إلى مكتب الجامعة اليونسية. فإذا أنا بأناس تتفجر قلوبهم بالبكاء وتظهر في وجوههم آثار الحزن والكاٰبة، مضوا يتفجعون عليه يتحادثون عما ترك من آثار الخير، ويستعيدون ذكرياته؛ ووجدتُ عيني يمرأمَامهَا شريط صور حياته والعين تذرف الدموع والدموع تمنع منطقي...
فمن هذالرجل الذي أبكى فراقُه هذا الملأَ من الناس؟...
شيخنا وشيخهم، ومرشدنا ومرشدهم.
***
قد ملك المجد بأطرافه كلهَا، فمَا فاته منه شيئ، اجتمع له مجد العلم: فكان في زمننا من أسَاطين العلماء في بنغلاديش ومن أعلام المفتين فيها؛ مجد الصحبة: صحبة الصَالحين الكبار الكماة الذين جعل لنا التاريخُ حياتَهم مثلًا أعلى، ولاسيَّمًا صحبة العلامة المرشد الكامل البطل السياَسي شيخ الإسلام حسين أحمد المدني؛ مجد التقي: فقد كان صوامًا بالنهاَر، قوامًا بالليل، مستغفرًا بالأسحَار، بكَّاء من خشيَة الله، دؤوبًا لاتباع سنة الرسول- صلى الله عليه وسلم- في صغير وكبير؛ مجد اللبابة والبراعة: فكان حَاذقًا بريعًا في تدبير الأمور، ومراقبًا لكل شأن قلَّ أو جلَّ؛
مجد حسن السلوك: فكان يرحم ويعطف على الكل، لايقبل على أحدٍ إلا وفي وجهه ابتسَامَه، ولايشافه أحداً إلا وفي كلامه لين.
***
إنه الفقيه الشيخ نور الله بن عبد العزيز بن عبد المجيد -رحمه الله- [1]
ذو سيرة تتمثل فيهَا سيرُ الأسلاف، كما يتشكل فيهَا مَا يُتمنىَ لحياة ناجحة من الشيم المرمُوقة والأخلاق المحمودة؛ فكان يتحلى بالنبل والسيَادة وبالتقى والزهد والورع... يتميز بكثير عن كثير، لاأقول: إنه في التقى والصلاح كأحمد بن حنبل، ولا في الاجتهَاد والفقه كأبي حنيفة، ولا في الزهد والورع كسعيد بن المسيب، ولا في الجرأة والصراحة كسعيدبن جبير والحسن البصري، ولا في الرواية والحفظ كالبخاري، إلا أنه وارث لكلهم، فلم يأل جهدًا أن يقتفي في كل اُمورِه آثارَهم قصصَا.
رجل بلاط ورجل دين في وقت معًا، متملك لسانٍ تحلّى بالصراحة والصدق وبالاعتراض على وجوه المعَاندين، فدعَا إلى ترك المجاملات، والرجوع إلىٰ أخلاق المسلمين الأوَّلين من الصراحة والصدق وقصد الحقائق وقمع الأباطيل.
لم يكن يصرم من وقته لحظة إلا بعمل نافع لنفسه أولقَاصديه أو لعَامة المسلمين، فمتى تُقبل عليه تَرَه ينشغل بعمل خيري: إما الدرس والتدريس، وإما العبادة والتحنث، وإمَّا الإصلاح ذات بين الناس، والوعظ والنصح لهم؛ فكان يتـرك أثرا
من الخير أينما حلَّ، فكان مجلسه حيثمَا جلس مدرسةً، ولقائه أينمَا لقيته درسَا: يعلمك مسألة، أو يرشدك إلىٰ مَا تتأمل، أو يلقِّنك ما شَاهد في مشَائخه من الأخلاق والفضائل؛ ومن هنا يجمع حوله طائفة من أعلام الشباب من مُريديه ومُحبيه، فيُبين لهم الطريق، ويُنشئُهم على بَرنَامجه، وطائفة من الشيوخ، فيعرض عليهم مالهم...
يَا قَارئ! لابد لنَا أن نمر بمنعطفَات حيَاته ونرتع فيْهَا، فَامشِ معنَا إليها.
*****
أوى إلى ظل الجامعة اليونسية التي كانت وقتئذ مشهورة في شرق البلاد من ناحية التعليم والتربية، أوى من قرية شاسعة من حارات "ريْ بُور" بمديرية "نرْسندى" بعد أن أتم الدراسة الابتدائية تحت ظل أبويه، وذلك بُغية أن يقطع ظمئه العلمي، وأن يرد موردًا رصينا واسعًا. بدأ دراسته من جديد، وشمر عن سواعد الجد. دأب مطالعة الكتب كأنمَا جعلهَا خير جليسه، فكان يمشي وفي يده كتاب، وينام وفي يده... ويأكل وعينه على الكتاب, يتردد إلىٰ أسَاتذته للتبرك بصحبتهم، وإلىٰ مجَالسهم العلمية لاقتناص الشوارد العلمية, بيد أنه يكثر من الاختلاف إلى الشيخ الأستَاذ "فخر البنغَال" فاستمع منه كثيرا, واستفاد وأخذ منه جزيلا، ومن هذا وقعت بينهما المودة والمحبة القلبية، فيحنو عليه فخرُ البنغَال حَنَان الأب على ابنه، وهو يحب أستَاذه أكثر من نفسه ويقدره حق قدره.
كان الشيخ نور الله حريصًا جدًا منذ غرَّة عمره على تلقي العلم، وهذا الحرص شجع أن يسير لذلك كل مسيرٍ، وأن يصطبر على مَايصيبه من المشاق والكلف كالخصَاصة، ومخالب الفقر والفَاقة، وقلة مرافق الحياة الدراسية... كما منعه أن يصيب في الليل من كرى طويل ملأ جفنيه- (فمَا ظنك به في النهَار)، يجلس بعد العشاء لمطالعة الكتب، ويطيل ذلك -الجلوس- حتى يجهده كثيرا، فيغلب على عينه النوم، فينام ورأسه على المنضدة، والمنضدة تبقع وجهه وهو لايشعر.
فما أكثر طمعَه العلمي! ونِعْم هذا الطمع والحرص الذي أعانه في كل شؤون وفي كل أمَاكن أن يصنع حياته.
بعد سنوات، بعد إتمامه الدراسة الثانوية، رغب قلبُه رغبة ملحة بالرحيل إلىٰ دارالعلوم ديوبند، للحُصول على الدراسة العليَا فيها وللتيمن بآثار السلف فيها.
***
برقت الأسَارير في وجهه، ورسخت الطمأنينة في قلبه بمَا لقي في دارالعلوم بيئة علمية تحمل للطلّاب دراسة مستوى أعلى جَامعي، ووجد فيهَا طائفة من العلماء الأفذاذ ذوى السمعة في أطراف الهند، وهذه الطائفة توفر لهم العلوم والمعَارف بجانب علوم الإحسَان ومكارم الأخلاق أيضا، فطابت له الحياة في ديوبند.
أنشأ يبذل الجهود كلهَا في اقتناء العلوم من معالمه, وفي شرب الدر من مصَادره؛ تفرغ معتكفا على الكتاب وعلى الأسَاتذة جميعَا، ولاسيمَا على الأستاذ شيخ الأدب إعزاز على- رحمه الله-، غير أن من أكثر من صحبته، والاستفادة منه، ووضع امَامه سيرتَه مثلا أعلى، وحَاول- بأقصىٰ مَا يستطيع- أن يشكل في حياته تلك السيرة: هو شيخ الإسلام مرجع علمَاء الهند السيد حسين أحمد المدني- رحمه الله تعالي-.
يالحظِّه!... تشرف بصحبة رجل كان النَاس حتى العلمَاء الكبار يوقنون أن صحبته للمحة من السعَادة، وأن تلقي العلم عنه من الكرامة...
لزمه نورالله لزوم العين أخته، فكان لايحب أن يغيب عن مجلس شيخه للحظة، إذا كـان شيخه في الحضر، وأما في السـفر، فلايـستطيع أن يرادفه للدراسـة،
والحضور في دارالعوم؛ بيد أن شيخه لما عَاد من سفره، رأى تلميذه نورالله واقفًا أمام البوابة في تواضع وأدب للاستقبال والترحيب.
وهناك الشيخ المدني لما رأى في تلميذه نورالله من الأدب والتواضع، والسعي وراء العلم، والمجاهدة في تزكية نفسه وتحليتهَا بعلم الإحسَان، بجانب أن وجد فيه من قريحة نادرة، قّربه من نفسه، حتى جعله إمَام مسجده... ونورالله أصبح يقوم بمسؤولية الإمَامة بإحسَان واحتسَاب (إلىٰ ان مضىٰ منه أربع سنين)، كما أصبح يمعن في دراسته وتَسلُّح نفسه بتعاليم وتربية شيخه، وفي السير مسيرَ مشايخ الطرق.
فهذه الصحبة والملازمة سهَّلت عليه أن يحقق في حياته مَاشاهد في شيخه من مكارم الأخلاق والآداب، والنبل والسيَادة، والمواقف من السيَاسة والسياسييّن، ومن الطلاب والمؤظفين، ومن عَامة الناس، مما جعل نجلَ شيخه أسعدبن حسين المدني الذي ورث أباه في العلم والعمل والسياسة والذي جلس مجلس أبيه للإشراف على الأمور والنشاطات التي تركها أبوه للأمة، جعله أن يشرَّفه- نورالله- بالإجازة والخلافة.
****
وكان الجهد والاجتهاد في صنع الحياة مما يرتاح به قلبه ويطمئن به فؤاده؛ فكان يجتهد طوال حياته اجتهَادًا بليغًا في الدراسة، والتدريس، التزكية والتربية، وما إلىٰ ذٰلك؛ وهذه المجَاهدة والمثابرة المتواصلة أطارت صيته في أيام قلائل في سَاحة التعليم والتدريس، وجعلته من أعلام المعلمين الناجحين، ومن هذا وقعت آراء من يَلُوْن أمورالجامعة اليونسية على توظيفه فيهَا مدرسًا، غرض تطوير الجامعة تعليمًا وتدريسًا وتربية.
تفرغ للجامعة وخصص نفسه بخدمتهَا، وجعلهَا أمَاني حياته، فحينمَايتمنى يتمنى لهَا ويتطلع، فكان يفكر فيهادائما حتى تمر صورتُها بخِيَاله كل وقت: في يقظه ومنامه، في شغله وفراغه.
بذَل جهودَه الضخمة، وقطع حياته كافَّة، وصبَّر نفسه على شتى المشاق في سرَّائه وضرَّائه بغية تطويرالجامعة من النَاحية التعليمية والاقتصادية.
صعدت الجامعة في زمنه إلىٰ غَاية السمو والرقي في التعليم والإقتصَاد، وبفضل سعيه انتصبت مَبانيهَا كلهَا في زمنه، وبخَاصةً مبناهَا الرئيسي الشامخ ذوالأدراج الخمس قام على السَاق من اجتهَاده البليغ وفكره الدائم.
***
كان يهتم بالجَامعة اهتمَامًا بليغَا ويؤثرهَا على كلً: نفسه، ومَاله وولده، وقريبه؛ ولايصطبر على شيئ ضدهَا. يضحي بنفسه وبكلٍ له للجامعة؛ يؤدّى بإحسَان واحتسَاب مَا أُسند إليه من المسؤوليَات عنهَا، رغم إصَابته من الكلف الهائلة؛ حتى عند مَا ولى وأدبر شبابُه ومسَّته أضرار الشيبة قام بمسؤولية ضخمة: مسؤولية رئاسة الجَامعة.
فمَا أعلى هممه وعزائمه!
أدار شؤونهَا وراقب أقسَامهَا بترتيب وتنظيم، إلىٰ أن بسطت إليه يد المنون.
***
أدرك حظا صالحا من العلم، واقتنى طائفة من أسرار التزكية الإحسان، وضم بين برديه من مكارم الأخلاق وحسن السلوك، والمودة والمحبَّة، فأضحى مرجعًا للناس خواصهم وعوامهم؛ يَفِدون إليه من كل فج عميق لحل مشاكلهم، واستماع نصَائحه ولتلقي تعاليم الدين عنه....
لايضيع من وقته شيئا، بل يستخدمه في الأعمال الخيرية: التعليم والتدريس، الوعظ والنصح والدعوة إلىٰ سبيل الحق، وتزكية نفوس القاصدين الواردين إليه، إلا أنه لم يُعد لنفسه زاويةً مخصوصة-كما كانت تُعد في الزمن الغابر وكما تُعد في الزمن الراهن- ليلوذ بهَا هؤلاء الوافدون والقَاصدون له، ويقيموا بهَا للتلقي عنه دروس الإحسان؛ لكن كل مكان- أينما حل- كان له كزاوية، يراقب منه ويديرُ رسَالاته وبرامجه الخيرية.
****
كان التواضع دثارَه، فكان يمشي على الأرض هونا وإذا خاطبه الجاهل قال سلاما... يوقر الكبير ويرحم الصغير، فكلما كان يدخل عليه رجل أيا كان ومن أيِّ مكان، يقبل عليه بالتواضع والإكرام ويختار موقفًا يمني نفسَه- الداخل عليه- بأنه عنده أعظم وأكبر.
وما أدراك بتواضعه ؟!
(( قال لنا تلميذ[2] له عند بيان تواضعه: كنت أدرس في قسم تحفيظ القرآن الكريم التابع للجامعة، وكان من عادتي أن أصحو من النوم بالأسحار؛ فأستيقظ وأذهب إلى قضاء الحاجة، فطالما رأيت الشيخ نور الله يقف بجانب المراحيض التي يستعملها طلاب الجامعة وعامة الناس، وفي يده دلو ومساحة: يأتي بالماء من بعيد وينظف هذه المراحيض.... فأتعجب من صنيعه هذا كثيرا.))
((وقص علينا المفتى مبارك الله الرئيس للجامعة اليونسية حاليا تواضعه وخدمته للخلق، فقال: كنت مرافقا لشيخي وأستاذي نور الله في سفر الحج –وكان هذا السفرَ الأول إلى الحج في حياتى-، فأحرمنا للعمرة من داكا، وطال السفر بذلك الحال، فبلغ مني الجهد حتى أصابتنى الحمّى بشدة.
بلغنا مكة المكرمة فطفنا واعتمرنا والحمّى تؤلمني حتى انتهت بي إلى الليل وسقطت بي على الفراش، فغبتُ في نوم عميق كأني فاقد الوعي.
وبعد كثير... بعد أن هدأ الأطيط وارتفع الغطيط شعرت براحة، وشعرت أن أحدا يغمز رجلي، ففتحت عيني فإذا شيخي وأستاذي يغمزني ! فانقبضت من الخجل وكدت أجرّ رجلي، فقال: لماذا...؟ أغمزك –وأنت محموم- لكي تستريح...))
كم أخذ بالتواضع والإخلاص وخدمة الخلق...! ينظف.... ويخدم... رغم ماكان علامة كبيرا مرجعا للناس!
وكانت زينتَه العظمى الحلمُ والصمتُ: فلا ينطق إلا بمَا ينفع؛ والابتسَامُ في وجهه: فلايواجه أحدًا إلا وفي وجهه مخايل البسمة تلوح؛ والشفقةُ والرأفةُ: فلا يغيظ لواحدٍ من القَاصدين والمزاملين في العمل، يرحم ويحب كلامنهم بحد يخيل إليه أنه أحب إليه، وتعظيمُ الناس وتقديرُهم: يتقدم نحو كلٍ بالتقدير والتعظيم، عالمًا كان أو عَابدًا، عَاملا كان اُومؤظفا، فيقدره وفق مكانته.
***
كان خطيبا للجامع المركزي لمديرية برهمن باريا طوال زهاء خمسين سنة، وكان يدعو الناس من منبر الجامع إلى تجديد إيمانهم وإسلامهم وهجر البدع والشرك والتمسك بحبالة السنة والتوبة إلى الله؛ ويصرخ منه بالحق ويحارب الباطل، ولا سيماً يعارض الحكومة ويهددها حينما كانت تصدر حكماً أو تصنع صنيعا يخالف الشريعة الإسلامية؛ فإن الله تعالى قد منَّ عليه لساناً ينطق ما يظهر الحق ويمحق الباطل وبما يثير في القلوب وعيَ التمسك بأخلاق السابقين الأولين من الصراحة والحق والجُرأة وترك المجاملات.
((ذات مرة كان قدم إلى قرية "كاندي بارا" – التى وقعت بها الجامعة اليونسية- الرئيس السابق لدولة بنغلاديش والرئيس لِ "الحزب الوطني" (National party) حسين محمد إرشاد، فرحَّب به الزعماء والسادة والقادة ترحيباً حاراً، حتى يصفِّقون أيديهم بشدة ويهتفون مختلف الهتافات ويرفعون أصواتهم، وكانوا يفعلون ذلك عندما يمرُّون بالجامعة، وحتى عندما يمرُّون بقبر الشيخ فخر البنغال، وكان وقتئذ تنعقد في رحاب الجامعة حفلة إفتتاحية لمبنى قسم تحفيظ القرآن الكريم، فأملَّ جدًّا ترحيـبُهم هذا الحاضرين في الحفلة، فقام الشيخ نور الله من بين الحاضرين يعارض أولئك المرحبين وينبههم على سوء أدبهم من تصفيق أيديهم ورفع صياحهم في رحاب الجامعة، وأمام قبر فخر البنغال.))
أفرأيت جرأته وصراحته ؟!.... عارض الزعماء في حضور رئيس الدولة, ولم يوجس منهم خيفة !
***
كان محافظًا على الوقت بكثرة، فيستنكر أن يرى أحدًا يقطعه بدون عمل نافع، فطالَما ينصح لمحبيه من الأساتذة والتلاميذ أن يعتنوا بالأوقات: أن يمضوهَا بمطالعة الكتب وبالأعمال الخيرية.
هناك خطرت بالبال قصة وقعت بيني وبينه، وهي:
وُظفتُ في هذه الجامعة أستاذا، وظللت أحمل بعَاتقي أعباء مسؤولية التدريس بفضل الله ومنِّه، فبعد أيَّام، دخلتُ عليه -وهو في مكتب الجامعة وحوله عصبة من كبارالأسَاتذة والمدرسين، يتحدث إليهم وهم يستمعون إليه منصتين- بعد الانتهَاء من صلاة المغرب، لصرم لمحَاتٍ في صحبته، أستفيد منه وأستمع له متعظًا؛ سلمت عليه وصَافحته، وساءلته عن صِحَّته... فلم تكن إلا هنيهات حتى توجه إلي قَائلا: مَاحملك إلي الآن؟
زيارة فضيلتكم!!
فلم يلبث أن سَمع جوابي هذا حتى استرجع متعجبًا وقال: كلاَّ، لاتضع الوقت لهذا، وكيف شعرت بي الآن؟ والوقت وقت المطالعة محضًا...
ثم قص علينا ناصحًا قصةً دارت بينه وبين أستَاذ له في الاهتمَام بالوقت...
فما أكثر اعتنَائه بالوقت! وما أزيد حثّه على حفظه!
ومن الوقت ذاته تولّد في ضميري من جديدٍ الاهتمامُ بالوقت، وأصبحت لي هذه القصةُ باعثة حثيثة لذاك.
****
قد أخلص دينه لله-عزَّ وجلَّ-، واجتنب كل الاجتناب الرياءَ والسمعة والصيت بين الناس؛ قد تم بيديه كثيرٌ من الأعمال الخيرية والبرامج الدعوية مَايعجز عن القيام بهَا كثير من الأفذاذ الكماة، وليس له كثرة من القوى والجنود والأموال- مثل أقرانه ومعَا صريه-، إلا أن له قوة كانت تشجِّعه من وراء أعين الناس على إكمال هذه البرامج الكبيرة المهمة، وهي قوة إخلاصه! يخلص لله كل عمله صغيرا كان أو كبيرا، فيدرك نصرا من الله (ألا إن نصر الله قريب)
(ياأيهاَ القَارئ الكريم: الإخلاص هو روح أعمالك وإنهَا لاتقبل بدونه فإنما الأعمال بالنيات-أي بإحسَان النية والإخلاص-، فأخلص دينك يكفك العمل القليل)
"الدين النصيحة" قاله النبي- صلى الله عليه وسلم- حثا لأمته على تمني الخير والصلاح للغير؛ وقد رأيت شيخي نور الله يسعى أن يحقق في نفسه هذا الأمر العظيم، فكان ينصح لكلٍ: كبير وصغير، غنِى وفقيرٍ، ويرشده إلى سواء السبيل.
وإليك- ياقَارئ- حديثا جرى بيني وبينه، وهو:
بينما كنتُ في المسجد, بلغني أن الشيخ المفتي نور الله إستدعَاني إلى غرفته، فأسرعت نحو غرفته ودخلت عليه، فإذا هو آخذ بالمضجع من شدة المرض؛ سلمت عليه، فرد علي السلام ونَادانى بصوت خَافت- وهو مشروب بالحب والود-: جئتَ يا أبابكر؟ فنهضت إليه قائلا: نعم، ياسيدي! أمسك بيدي، وتحدث معي قليلا، وفي أثناء ذلك نصح لي وأرشدنى إلى جودة أسلوب التدريس، وأشار علي إلىٰ إكثار المطالعة، مع التنبيه على الكتب التي أضع أمَامى... ينصح لي وهو يتأوه من شدة الوجع عبر التكلم؛ فيالنصحه لهذا العبد الحقير!!.
وياليتني! لو كنت أكثرت من صحبته زمن الدراسة على يديه... غير أنه قد أتيحت لي في الزمن الراهن فُرصةُ صحبته...
ولكن لم يبتسم لي الحظ، فلم تمتدلي تلك الفرصة، وقضى الله-عزوجل- مَاقضىٰ.
اللّهم ارفع درَجاته وبوّأ منـزله في جنتك الفردوس الأعلى.
(3) ولد عام 1930م بقرية "مدُّو نغر" بشبه المحافظة "رَيْ بور"، والمحاظة: نرسندي. أتم الدراسة الابتدائية في مدرسة حكومية بقريته ونجح في الامتحان النهائي المركزي للصف الخامس بتقدير ممتاز بالمرتبة الأولى، ثم التحق بالمدرسة الإسلامية.
4) هو الشيخ فيض الله الرئيس للجامعة الإسلامية مدني نغر، داكا.