عندما يُطلَق ضيوف بعض البرامج التلفزيونية في بعض المحطات العربية الفضائية، على الأتراك مُسمى "العثمانيين" وعلى رئيسهم وصف "السلطان" في معرض الذم والهجوم، فاعلم أنه تعريض بأن لتركيا حلمًا تريد استعادته من قلب صفحات التاريخ الآفلة، إنه حلم استعادة الإمبراطورية العثمانية التي امتدت أرجاؤها في الشرق والغرب، من آسيا الصغرى إلى القارة الأوروبية وشمال إفريقيا، وأنها بصدد ابتلاع دول المنطقة، فمِن ثَمَّ وجب التصدي للمشروع العثماني التوسعي"، هكذا يقولون، وهكذا يدّعون، فما هي الحقيقة؟
الحقيقة تقول:
إن تلك المزاعم التي لا ينفك البعض عن ترديدها، هي محض أوهام تعبر عن انفصال قائلها عن الواقع والعصر الحديث، فلو سلمنا لنظرة أستاذ العلوم السياسية وأحد رواد القرن العشرين في السياسة الدولية "هانس مورغانتو" بأن جميع الدول ذات فطرة تحاول السيطرة على بعضها البعض، فإن صورة التوسعات الجغرافية بقوة السلاح تكاد تكون قد تلاشت، وهي الصورة التي أدرك المستعمر أنها ليست ذات جدوى، وحل مكانها الغزو الثقافي والفكري وتقاطع المصالح الاقتصادية والسياسية والاستثمارات خارج الحدود، واستخدام القوة الناعمة في التأثير على الشعوب الأخرى.
فالزعم بأن تركيا تستعيد الإمبراطورية العثمانية يستلزم أن تتمدد تركيا جغرافيا، وهذا محال في ظل هذه الشبكة المعقدة من الحسابات الدولية والتكتلات والتحالفات، في حين أن تركيا تصدر ثقافتها وتتوسع في علاقاتها وثنائياتها في المجالات العسكرية والسياسية والاقتصادية، بما يغنيها عن التوسع الأفقي خارج حدودها.
ومن الغريب أنها تهمة لصيقة بأية تحركات تركية في المنطقة تنطلق من تعسف متعمد، وإلا فأين الدليل من الواقع على رغبة الأتراك في إعادة الفتوحات العثمانية مرة أخرى كما يقولون؟
ماذا عن التدخل العسكري في سوريا؟
لقد جاء هذا التدخل أيضا بعد طول صبر ونداءات متكررة بالتدخل لمنع خطر تنظيم ي ب ك/ بي كا كا"، والذي يقوم بالعمليات الإرهابية ضد المصالح التركية.
كان الأحرى بهؤلاء أن يتهموا روسيا بالبحث عن أمجاد القياصرة في سوريا سيما أنها لا ترتبط مع الروس بأية حدود، أو اتهام إيران باستعادة مجد الإمبراطورية الفارسية عندما تمددت في العراق وصيرتها إحدى محافظاتها، وفي لبنان عن طريق حزب الله الموالي لها، وفي سوريا التي تحكمها عن طريق بشار الأسد، وفي اليمن عن طريق جماعة الحوثي الموالية لإيران.
ماذا عن التدخل التركي في ليبيا؟
التدخل التركي يتمثل في دعم حكومة الوفاق المعترف بها دوليا ضد الجنرال المتقاعد المنشق خليفة حفتر، تحت غطاء شرعي وهو الاتفاقية التي تمت رسميا بين الجانب التركي وجانب حكومة السراج، تضمنت مذكرتي تفاهم، الأولى تتعلق بترسيم الحدود البحرية بينهما في المتوسط، والثانية تتعلق بالتعاون العسكري وتقضي بإرسال قوات تركية لدعم الحكومة حال طلبت هي ذلك، وقد كان.
فكيف تتفق مزاعم استعادة الأتراك لتوسعات الإمبراطورية العثمانية مع هذه الحقائق؟
ربما قال محترفو الاصطياد في الماء العكر: إن الأتراك يسعون لإعادة المجد العثماني بالتوغل في الدول عن طريق التنفذ الاقتصادي والسياسي والغزو الثقافي، وهذا من أغرب القول، فإنه ما من دولة إلا وتسعى لتصدير ثقافتها، وتحقق الاستفادة القصوى على كافة الأصعدة من خلال إيجاد موطئ قدم لها في الدول الأخرى، واستمالتها كحلفاء لها لتأييد مواقفها الدولية، فلم تأت تركيا بجديد، وهذا أمر مشروع طالما كان نائيا عن الإضرار بالآخرين، وكل ذلك يدور في فلك تقاطع المصالح.
لا شك أن القيادة التركية تعمل جاهدة على إحياء التراث العثماني، وربط الأتراك بأمجاد ماضيهم، وهذا واضح جلي حتى في الأعمال الدرامية التي تشجعها الدولة والتي تتناول الحقب التاريخية للعثمانيين، والهدف من ذلك هو إيجاد فكرة مركزية للنهضة الحديثة التي بدأتها حكومة العدالة والتنمية منذ توليها شؤون البلاد، فإنه ما من مشروع نهضوي إلا ولابد له من فكرة مركزية يجتمع عليها الناس، تنطلق من هويته الثقافية الأصيلة كما قرر علماء الاجتماع، ولذا نستطيع القول أن استدعاء الأتراك للماضي العثماني هو دعامة أساسية من دعائم نهضتهم، يستنهض هممهم، ويأخذ بأيديهم إلى القيم الأصيلة البنّاءة، وأما القول بأن هناك مشروعًا توسعيا يعملون عليه فهو مجرد ادعاءات لا يستقيم لها بُرهان ولا ينهض لها دليل.
المصدر : وكالة الأناضول