لا يبدو أن أحدا تخيل مشهد رحيل الرئيس المعزول محمد مرسي داخل قفص اتهام محكم بجدار زجاجي يحجب صوته، وإن كان ذلك المشهد مناسبا كنهاية درامية تلائم حياة استوعبت الكثير من الضجيج والألم، بل ربما كان انعكاسا واضحا لمآل ثورة المصريين وما تنطوي عليه حياتهم منذ عقود وحتى إحياء الذكرى الأولى لوفاة أول رئيس مدني منتخب في البلاد.
هكذا وقبل عام اختار القدر تغييب مرسي في 17 يونيو/حزيران 2019، تاركا نزاعا متجذرا بين مؤيدين يرفعونه لمصاف الأطهار المنزهين ومعارضين يرونه نموذجا للفشل في إدارة البلاد، فيما يبقى صوت ثالث يقول إنه في بعض الأحيان يكون الأنسب للمرء أن يترك مكانه ويرحل فحسب.
وفي قصة حياة وموت أول رئيس مدني لمصر حقائق وترميزات، تستخدمها تلك الأطراف المتنازعة إما لحشد المواطنين ضد السلطة العسكرية الحالية أو لتدعيم بقائها، وفي كلتا الحالتين يبدو مصير سيرة الرجل إلى الخلود مقرونا حتما بثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011.
ما قبل الرئاسة؟
في قرية صغيرة بمحافظة الشرقية ولأسرة متوسطة الحال، ولد محمد محمد مرسي عيسى العياط في أغسطس/آب 1951، أي قبل نحو عام من انقلاب ضباط الجيش على الملك فاروق وسيطرتهم على حكم البلاد في 23 يوليو/تموز 1952.
وفي مدارس الشرقية، تلقى الطالب محمد مرسي تعليمه حتى حصل على الشهادة الثانوية، ثم انتقل إلى العاصمة لدراسة الهندسة في جامعة القاهرة، إلى أن تخرج عام 1975 ليعين معيدا بالكلية، ثم سافر إلى الولايات المتحدة الأميركية ليحصل على الدكتوراه.
خلال وجوده في أميركا وتحديدا عام 1979، تعرف على أفكار الإخوان المسلمين حتى صار عضوا في هذه الجماعة.
وفي عام 1985، قرر مرسي العودة إلى وطنه، ليعمل أستاذا ورئيسا لقسم هندسة المواد بكلية الهندسة في جامعة الزقازيق حتى عام 2010.
وبالتزامن مع المسيرة الأكاديمية واصل الرجل مشواره السياسي، حيث بدأ عضوا في القسم السياسي بالجماعة. وفي عام 2000، فاز في الانتخابات البرلمانية ليصبح المتحدث باسم الكتلة البرلمانية لجماعة الإخوان المسلمين في مجلس الشعب.
إلى جانب ذلك، كان أستاذ الهندسة من ضمن المشاركين في تأسيس الجبهة الوطنية للتغيير، في عام 2004. وفي عام 2006 اعتقل أثناء مشاركته في مظاهرة تندد بتحويل اثنين من القضاة إلى لجنة الصلاحية، بسبب موقفهما المعارض من تزوير الانتخابات البرلمانية التي جرت عام 2005.
وما لبث أن أفرج عنه بعد أشهر قليلة، غير أنه اعتقل مرة ثانية بعد أيام من قيام ثورة 25 يناير/كانون الثاني، وأودع في سجن وادي النطرون قبل أن يخرج على إثر الانفلات الأمني الذى عاشته مصر آنذاك.
وفي أبريل/نيسان 2011، انتخبه مجلس شورى جماعة الإخوان المسلمين رئيسا لحزب الحرية والعدالة الذي تم تأسيسه بعد الثورة كذراع سياسي للجماعة.
الصعود للرئاسة
في الرابعة من عصر يوم الأحد الموافق 24 يونيو/حزيران 2012، أعلن رئيس اللجنة القضائية المشرفة على الانتخابات الرئاسية فوز مرشح حزب الحرية والعدالة محمد مرسي برئاسة البلاد، على حساب أحمد شفيق آخر رئيس وزراء في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك.
وفي خضم الفرحة بخسارة شفيق الذي كان يعد رمزا لفلول العهد البائد فضلا عن كونه جنرالا سابقا في الجيش، كانت التخوفات تحيط بفوز مرسي، ذلك الأكاديمي المتخصص في الهندسة والبرلماني الناجح. فهو ابن جماعة دينية تتوجس منها تيارات عدة في المجتمع، وكان الإعلام يطلق عليها غالبا جماعة الإخوان المحظورة، فكيف سيتعامل الرجل مع الدولة العميقة التي فشلت ثورة يناير في إزاحتها؟
إلى جانب ذلك، فهو أول رئيس مدني للبلاد، أي أنه يخوض تجربة جديدة بالكلية على مصر، تحتاج لشخصية فريدة لضمان النجاح، وليس رجلا كان الخيار الثاني لجماعته بعد القيادي البارز خيرت الشاطر الذي استبعد من الترشح.
ولم تلبث التخوفات الكامنة في الصدور أن تحولت إلى واقع في الشارع تمثله احتجاجات ضد الرئيس المنتخب، فاندلعت التظاهرات بعدما صدر مرسوم رئاسي في نوفمبر/تشرين الثاني 2012، اعتبرته المعارضة يعطي الرئيس صلاحيات واسعة لتعود البلاد إلى سابق عهد الاستبداد.
وكان الانتقاد الأوسع انتشارا يخص انتماءه لجماعة الإخوان المسلمين، فاعتبره المعارضون آلة في يد المرشد لا رئيسا لكل المصريين، فضلا عن الضغط عليه لتحقيق إنجازات ملموسة في ملفات كثيرة سياسية واقتصادية واجتماعية.
الانقلاب العسكري
قبل شهر واحد من إتمام مرسي عاما في الحكم، لم يعد الأمر مجرد تظاهرات عارضة تنتج في ظل أي نظام ديمقراطي، بل بدت الأمور وكأن جهة ما تمسك بكل الخيوط لتسيرها في اتجاه وحيد، وهو الإطاحة بالرئيس المنتخب.
فظهرت حركة شبابية تجمع توقيع المواطنين على توكيلات ترفض استمراره في الحكم، وأطلقت على نفسها اسم "تمرد"، ودعت مع كيانات معارضة أخرى إلى تظاهرات حاشدة للمطالبة برحيله في الذكرى الأولى لتوليه السلطة.
على الجانب الآخر، وقف المؤيدون لمرسي سواء من أبناء التيار الإسلامي، أو المتخوفين من عدم الالتزام بشرعية الصناديق الانتخابية والانحراف عن الطريق الديمقراطي، أو الذين لم يجدوا في أداء الرئيس مدعاة للإطاحة به، أو من رأى مشاكل مصر مستعصية على حلها في عام واحد فقط.
وهكذا خرجت التظاهرات في 30 يونيو/حزيران 2013، في مشهد يبدو شعبيا عفويا خالصا، وإن كانت الحقائق ستكشف بعد ذلك أن كل شيء جرى تجهيزه تمهيدا للانقلاب العسكري في 3 يوليو/تموز 2013.
وعلى إثر الانقلاب العسكري ألقي القبض على مرسي وتم اخفاؤه قسريا، ليظهر بعد ذلك في قاعات المحاكم كمتهم حيث صدرت بحقه 3 أحكام نهائية، في قضايا أحداث الاتحادية والتخابر مع قطر وإهانة القضاء، بمجموع سنوات سجن يبلغ 48 عاما.
وظل أول رئيس منتخب للبلاد محبوسا في زنزانة انفرادية ومحروما من الزيارة لمدة ست سنوات، إلى أن اختار القدر أن يكون موته في قاعة المحكمة أثناء إحدى جلسات محاكمته، إثر نوبة قلبية عن عمر يناهز 68 عاما.
ولم يفوت النظام العسكري أن يسطر بفظاظة آخر سطر في قصة الرئيس المدني، فرفض تنفيذ وصية مرسي بأن يدفن في مقابر أسرته بالشرقية، وتم دفنه في ظل حراسة مشددة بمقبرة دفن فيها مرشدون سابقون للإخوان المسلمين.
من الذي حكم؟
ظاهريا يبدو أن مرسي تولى حكم البلاد عاما كاملا، لكن كل الملابسات التي شهدتها تلك الفترة تجعل سؤال "من الذي حكم مصر من يونيو/حزيران 2012 حتى يونيو/حزيران 2013؟" سؤالا مشروعا.
فمن ناحية، كان ظاهرا أن أجهزة الدولة لا تتعاون مع الرئيس المدني ابن القرية البعيدة الذي لا يمتلك نسرا على كتفه، ويذهب إلى القصر الجمهوري ليباشر عمله ثم يعود إلى شقته البسيطة التي يسكنها بالإيجار، وماتت أخته بمرض الكبد داخل مستشفى حكومي.
وبحسب مراقبين للمشهد وقتئذ، فإن أجهزة الدولة -خاصة الأمنية منها- لم تتعاون مع مرسي في إدارة البلاد، واختلفت أسباب ذلك بين عدم رضى تلك الأجهزة عن سياسياته التي تمثلت في تمكين أعضاء الإخوان من مناصب حكومية، والخوف من نجاح التجربة الديمقراطية والتي ستؤدي تباعا لزوال الدولة العميقة والتي تعد أجهزة الدولة من أذرعها.
أيضا كانت الآلة الإعلامية -المملوكة لرجال أعمال محسوبين على الدولة العميقة- على أشدها في انتقاد أي تصرف أو تصريح يصدر عن مرسي، بل إن أمورا لم يرتكبها الرجل تم إلصاقها به وهي من الأدوات الدافعة في اتجاه المظاهرات ضده.
وعلى ذلك الحال، تطور التساؤل إلى: "كيف يدير الرئيس أجهزة ترفض إدارته؟"، بينما مآلات الأمور تجيب بأن مرسي كان يحرث في بحر من الخديعة.
المصدر : الجزيرة