بقلم : محمد هارون العزيزي الندوي
هوالعالم الرباني الكبير ، والزاهد الورع التقي النقي الشهير، الداعية الضليع البارع الخبير، الفطن اللبيب الأثير ، مرشد العلماء وموجه الفضلاء، الشيخ محمد هـارون البابونغري رحمه الله تعالي.
لقد تعرفت على الشيخ وكنت في صغر سني ، فمنذ أن بدأت أبصر النور بعقلي وشعوري وإحساسي ، تعرفت عليه تعرفا حسنا ما لا أنساه حتى الآن ، كان والدي الشيخ نذير أحمد بن بديع الراموي – المتوفى سنة 1995 هـ رحمه الله تعالي رحمة واسعة _ من تلاميذه الكبار، رأينا الشيخ يزورنا كل سنة بدعوة من والدي ، وسكان منطقتنا الجبلية التى تقع إلى الجانب الجنوبي لبنغلاديش، والتى تقع فيها مدينة "كوكس بازار" أكبر مدينة سياحية وترفيهية لبنغلاديش، ورأينا جميع سكان هذه المنطقة يحبون الشيخ حب الإبن لأبيه ، وكانوا يبجلونه ويحترمونه أيما احترام ، ويأخذون منه الدين والعلم ويتعلمون منه أحكام الشرع المتين ، ويستمعون إلى وعظه وإرشاده بكل اهتمام وذوق ورغبة ، بل يتهافتون عليه تهافت الفراش على النار ، وكان يعرفه كل صغير وكبير وكل رجل وامرأة من هذه المنطقة ، وكان والدى – رحمه الله تعالى- أشدهم له حبا وأكبرهم له توقيرا واحتراما ، وأكثرهم له معرفة بشخصيته الفذة النابغة ، حتى إن بيتنا يكون هي المحطة الأولى فى رحلته الدعوية إلى هذه المنطقة ، فكان والدي يحصل من شيخه على ما يحتاج إليه من علوم ومعارف وتربية روحية و معنوية ، وإصلاح الباطن ، وتزكية النفس .
وكان الشيخ البابونغري رحمه الله ذا صيت كبير وسمعة طيبة وشهرة بالغة في هذا الشأن وسباق الغايات في هذا المضمار، وكان ممن سهل الله له التضحيات بالمهج والنفس والنفيس ، والتفاني والاستماتة في سبيل الدعوة إلى الله والتعليم والتربية ونشر العلوم الدينية ، وتعميم الأخلاق والنبل والقيم الإسلامية في الشعب البنغالي المسلم ، فكان يضحي في سبيل الدين بكل ما يملكه من طاقات وقوات ومواهب وصلاحيات لغرض إعلاء كلمة الله تعالى ورفع راية الإسلام شامخة خفاقة مترفرفة أمام العالم ، وكان يدعو الناس إلي التوحيد النقي الخالص ونبذ الشرك ومزالقه وجميع انواعه والتمسك بالسنة الصحيحة والاجتناب عن البدع والخرافات والمنكرات والتقاليد والطقوس الجاهلية ، كان يدعو ليلا ونهارا ، وسرا وجهارا ، لاتفتر همته ولا تقصر عزيمته عن أداء هذه المهمة الربانية ، والأمانة السماوية الإلهية ، ولاتمنعه عراقيل أو عقبات في هذا الطريق ، من تجاوزه الطريق ، وقطعه المسافات الشاسعة ، وإبقاء سيره إلى الأمام ، للحصول على الغرض الأسمى ، والغاية الأعلى ، حتى أصبح الدعوة إلى الله تعالى شغله الشاغل وحديثه في النوادي والمحافل ، وعكف نفسه على عتبة باب العبودية لله سبحانه ، وكان صاحب جولات دعوية وتربوية في ربوع البلد ، يجول فى أكثر المناطق قريبا وبعيدا ، وربما يذهب إلى مسافات شاسعة سيرا على الأقدام لغرض الدعوة إلى الله.
أسرتـه
لاشك أن الأسرة لها دور كبير فى تكوين شخصية الإنسان وعقليته ، فإن الإنسان يتأثر بما يجري حوله من الأوضاع والأحوال والشئون العلمية والاجتماعية والخلقية والاقتصادية ، وأوضاع الأسرة تساهم مساهمة كبيرة فى تكوين عقلية ونظرية أفرادها .
والأسرة التى ولد فيها الشيخ هارون البابونغري رحمه الله ونشأ وترعرع ، وقضى طفولته ويفاعته وشبابه ، هي أسرة دينية شريفة ومتميزة ، أسرة تعتني بالعلم والدعوة ، والتربية والأخلاق ، والتزكية والإحسان ، والتحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل ، والتخلق بالأخلاق الحسنة ، أكثر من كل شيئ ، ومن أجل هذا الاعتناء البالغ بالعلم والدين والأخلاق فلا تجد فى أعضاء وأفراد هذه الأسرة الكريمة رجالا ونساءا من هو جاهل عن الدين وغافل عن أمور الشريعة تماما.
يقال إن أسرته الكريمة انحدرت من أسرة الخليفة الأول الصديق الأكبر أبي بكرالصديق رضي الله عنه ، وأسلافهم جاؤوا من العرب إلى البنغال حينذاك ، قال المحدث العلامة الشيخ محمد جنيد البابونغري إنه سمع من جده العارف الرباني الشيخ هارون البابونغري رحمه الله أنه قال : سافر أحد من رجال ودعاة هذه الأسرة الصديقية الجليلة وهو الشيخ برهان الدين الصديقي رحمه الله من اليمن إلى بلد البنغال واستوطن في جنوب البنغال (بنغلاديش حاليا) ، ومن هنا جاءت أسرة الشيخ البابونغري إلى قرية بابونغر من مضافات فتكصري ، من منطقة شيتاغونغ.
أبصر الشيخ البابونغري نور الحياة من أبوين كريمين صالحين متدينين زاهدين تقيين ، رزق لهما أربعة أولاد وهم : الشيخ عبد الحي (ت 1396هـ) ، وشيخ الحديث العلامة أمين (ت 1380 هـ) والشيخ محمد موسى بزرك صاحب (ت 1403هـ) وأصغرهم سنا شيخنا صاحب الترجمة العارف الرباني الشيخ محمد هارون البابونغري رحمه الله، وكلهم من العلماء والدعاة الكبار.
والده :
كان والده الشيخ الصوفي عزيز الرحمن بن الشيخ جان علي بن الشيخ محمد أمين عالما ورعا تقيا نقيا ، حامل لواء العلم والتربية ، وأحد أبطال الدعوة والإرشاد فى هذا البلد . وأحد المؤسسين الأربعة لـ"لجامعة الأهلية دار العلوم معين الإسلام هاتهزاري " ، وله اليد الطولى فى نشر العلم والثقافة الإسلامية فى الشعب البنغالى ، بتأسيس المدارس الإسلامية والمراكز الدينية والوعظ والإرشاد ، كما أن له خدمات جمة فى ميدان الدعوة والتبليغ .
وأمه كانت من الزاهدات الكريمات الصالحات القانتات ، فكانت أكبر عون لوالده فى خدمة الدين والدعوة والعلم .
وهذان الزوجان الصالحان ربيا أولادهما على التمسك بالشريعة والسنة ، والابتعاد عن الشرك والبدع ، وإجلال أهل العلم والدين ، وحب الاشتغال بالعلم والدعوة ، وحب السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين ، رأى أبويه وكبار أسرته عاكفين على تلاوة القرآن ، أو مشغولين بالذكر والإنابة والتوبة والاستغفار، ورأى الجماعة تحيط بوالده كهالة القمر، يتعلمون منه ما ينفعهم فى دينهم ، وإخوانه كلهم من العلماء الأفاضل والمحدثين الأجلاء والدعاة الربانيين .
أولاده وأحفـاده
تزوج الشيخ بالسيدة الفاضلة الكريمة الزاهدة فى الدنيا ، الراغبة إلى الآخرة ، وله منها ولدان وبنتان ، فأما الولدان فهما : (1) الشيخ محب الله و(2) الشيخ حبيب الله ،. واما البنتان فهما : (1) فاطمة و (2) كاملة.
أما ولده الكبير فهو العالم الغيور والداعية الجليل العارف الرباني وتلميذ شيخ العرب والعجم السيد حسين أحمد المدني، العلامة الشيخ محمد محب الله - حفظه الله ونفع به الأمة -، عالم كبير ، تخرج من أزهر الهند جامعة دارالعلوم ديوبند ، الهند ، وأخذ الحديث والتفسير والفقه والعلوم العربية من كبار أساتذة جامعة ديوبند ، أمثال شيخ الإسلام السيد حسين أحمد المدني ، والشيخ إبراهيم البلياوي ، والشيخ إعزاز على الأمروهي ، والشيخ فخرالحسن وغيرهم من الأساتذة ، وبعد أن فرغ من تحصيل العلم رجع إلى البلده ، وعين نائبا لأبيه فى " الجامعة الإسلامية عزيزالعلوم بابونغر"، التى أسسها أبوه ، وبعد وفاة أبيه أصبح رئيسا لهذه الجامعة ، واستطاع أن يثبت لنفسه أنه خير خلف لوالده الكريم ، وحتى الحين بقي فى نفس المنصب ، وبجانب قيامه بخدمة إدارة الجامعة إدارة حسنة وبكل جدارة وصلاحية تامتين ، قام بتدريس الحديث والتفسير والفقه والأصول والمنطق وغيرها من العلوم فى الجامعة ، وتتلمذ عليه كثير من أبناء بنغلاديش ، وله مواقف جريئة وبطولات حاسمة في مصالح الشعب البنغالي الدينية ، وخدمات وفيرة فى مجال العلم والدعوة والإرشاد ، كما أن له جولات دعوية وإرشادية كمثل أبيه فى ربوع البلد لإرشاد وتوجيه الناس إلى التمسك بالكتاب والسنة النبوية _ على صاحبها ألف الف تحية وسلام _ .
وأما ولده الصغير وهو العالم الكبير والمحدث الجليل الشيخ الحافظ حبيب الله _ حفظه الله ونفع بعلومه الناس - ، حافظ للقرآن الكريم متقن ، وعالم جليل ورع تقي ، بارع فى المعقول والمنقول ، و راسخ فى العلوم والفنون ، تخرج من جامعة دارالعلوم هاتهزاري وأخذ الحديث من علماء هذه الدار ، أمثال المحدث الكبير العلامة عبدالعزيز والعلامة أبوالحسن، والعلامة على أحمد والعلامة حافظ الرحمن ومفتى العصر العلامة أحمد الحق وغيرهم من العلماء . ومازال يدرس العلوم الشرعية من الحديث والفقه والأصول والنحو والمنطق فى " الجامعة الإسلامية عزيزالعلوم بابونغر"، وهو من كبار المحدثين البارزين فى هذه الجامعة ، ومن كبارالمعلمين الناجحين نجاحا باهرا في التعليم والتدريس . وكلاهما من خير الأبناء لخير أب.
وبنته الكبيرة وهي المسماة بفاطمة ، تزوجت بالمحدث الكبير شارح الحديث وشيخ التفسير العلامة الشيخ أبوالحسن بن نذير أحمد البابونغري – المولود سنة 1338هـ والمتوفى سنة 1412 هـ رحمه الله تعالى رحمة واسعة – كان الشيخ أبوالحسن من عباقرة علماء بنغلاديش ، وقف نفسه على خدمة العلم والدين ، حفظ القرآن الكريم كاملا فى صباه، ثم بدأ يأخذ العلوم الشرعية من فحول العلماء داخل البلد وخارجه ، أمثال شيخ العرب والعجم السيد حسين أحمد المدني ، وشيخ الإسلام العلامة شبيرأحمد العثماني ، ومخدوم العلماء الشيخ خليل احمد الراموي وغيرهم ، وقابل حكيم الأمة العلامة الإمام أشرف على التهانوي مرارا، قام بتدريس الحديث والتفسير والمنطق في جامعة دارالعلوم هاتهزاري ، وكان من المصنفين البارعين ، شرح مشكاة المصابيح باللغة الأردية وسماه " تنظيم الأشتات لحل عويصات المشكاة "، نال هذا الكتاب قبولا غير مسبق فى أوساط العلم والتحقيق ، ونال اعجابا كبيرا من جهابذة المحدثين وطلاب الحديث ، واستفاد بها العلماء والطلاب سواء بسواء ، فى بنغلاديش والهند وباكستان ، وكان هذا الشرح القيم النافع مرجع المدرسين لكتب الحديث فى الجامعات والمدارس الدينية ، وكأن هذا الشرح أغنى المحدثين عن مراجعة الشروح الكثيرة المختلفة ، لأن كتابه ليس إلا خلاصة شروح الحديث وعصارة مطالعته لشروح كتب الحديث ، ولقد طبع الكتاب فى الهند وبنغلاديش وباكستان مرارا ، وله أخرى.
وبنته الصغيرة وهي المسماة بكاملة بيغم ، تزوجت أيضا بعالم جليل ومحدث شهير وهو الشيخ يارمحمد رحمه الله تعالى ، وهو من خريج جامعة دارالعلوم ديوبند ، وكان محدثا بالجامعة العبيدية نانوبور، شيتاغونغ .
أما أسباط الشيخ وأحفاده من جانب الأبناء والبنات فكلهم من العلماء والفضلاء ، وهم كثيرون ، وأخص بالذكر منهم :
(1) شيخى وسندى العالم الكبير والمحدث الشهير والأديب البارع والخطيب الناصع والمحقق البحاثة والمدقق الفهامة الشيخ الحافظ العلامة محمد جنيد البابونغري ، _ حفظه الله ورعاه ومتع بعلومه ومعارفه الناس - ، وهو عالم فاضل كبير ومحدث عبقري نبيل ، حفظ القرآن الكريم وهو ابن عشر سنوات بجامعة بابونغر ، وقرأ الكتب الإبتدائية في نفسها ، ثم التحق بجامعة دارالعلوم هاتهزاري . وبعد التخرج منها ارتحل إلي باكستان لطلب علم الحديث والاستزادة من علومه وفنونه. والتحق بجامعة العلوم الإسلامية العربية علامه بنوري تاؤن كراتشي ، وأخذ الحديث من المحدث الألمعي العلامة السيد محمد يوسف البنوري والعلامة المحدث البحاثة عبد الرشيد النعماني، والمفتي ولي حسن والعلامة محمد ادريس الميرتهي. وحصل على الشهادة العليامن قسم التخصص في علوم الحديث ، ثم رجع إلي وطنه. وبعد رجوعه من باكستان عين مدرسا للجامعة الإسلامية عزيز العلوم بابونغر شيتاغونغ فدرّس الكتب الكثيرة في مختلف الفنون من الحديث وأصوله والفقه والمنطق والفلسفة والتاريخ والأدب العربي والنحو والصرف ، ثم عين محدثا للجامعة الأهلية دارالعلوم معين الإسلام هاتهزاري فهو الآن شيخ الحديث بالجامعة والأمين العام لحركة حفاظت إسلام بنغلاديش أكبر منظمة غير سياسية لمسلمي بنغلاديش .
و(2) وشيخي الكريم العالم الفاضل المحدث الفقيه العلامة محمودحسن حفظه الله، المفتي العام وشيخ الحديث بجامعة بابونغر ، درس الشيخ في جامعة بابونغر وتخرج فيها، ثم ارتحل للاستزادة في الفقه وأصوله إلى باكستان والتحق بجامعة بنوري تاؤن كراتشي وأخذ الفقه وأصوله والحديث من المحدث الناقد العلامة عبد الرشيد النعماني وغيرهم ، وبعد رجوعه إلى البلد عين مدرسا بجامعة بابونغر.
و(3) وشيخنا العالم الفاضل الداعية الكبير العلامة محمد أيوب البابونغري حفظه الله ، نائب الرئيس بالجامعة الإسلامية عزيزالعلوم بابونغر، درس الشيخ الكتب الابتدائية بالجامعة ، ثم ارتحل إلى باكستان وتعلم هناك في الجامعة البنورية ثم رجع إلى الوطن وعين مدرسا للدراسات العليا بالجامعة ، ثم عين نائبا للرئاسة بالجامعة ، فهو الآن أستاذ الحديث ونائب الرئيس بالجامعة .
حليته وصفته
كان الشيخ مربوع القامة ، متناسب الأعضاء ، كث اللحية ، لون جسمه بياض تعلوه حمرة ، تحمر وجنتاه حين يغضب ، جبينه واسع زاهر، جميل الصورة والسيرة ، ألقي عليه المهابة والوقار، ويكون أكثر مهابة حينما يخطب وعلى رأسه عمامة ، قد اجتمعت فى شخصيته المحبة والمهابة ، كان صاحب سكينة وتواضع مع عزة نفس ووقار، وكان صاحب صبر وتوكل وورع ، كان مقبلا على العبادة والذكروتلاوة القرآن ، راغبا عن الاشتغال بما لايعنيه ، وكان ذا همة عالية وبصيرة نافذة ، وكان ذا غيرة إيمانية وعاطفة جياشة ، كل من رآه هابه بمحبة واحترام ، كان راضيا بالقليل ، غير طالب للكثير ، متوكلا على الله حق التوكل ، كان جديا فى الأمور وليس هزليا، وكان غارقا فى الهموم والأفكار لإصلاح الأمة وتجدبف سفينتهم إلى شاطئ الإيمان والعمل الصالح والأخلاق الفاضلة ، كان موقرا للكبار ومترحما على الصغار، وكان صاحب ثورة ضد للثقافة الأنكليزية .
تعـليمه وتربيتــه
تعلم الشيخ البابونغري العلوم الشرعية فى حضن والده وتلقى التربية الروحية من عند أستاذه الكبير الشيخ ضمير الدين الملقب "بمولانا (الشيخ) الكبير"، - المتوفى سنة 1359 هـ - تلميذ الإمام العلامة رشيد أحمد الكنكوهي – المتوفى سنة 1323 هـ رحمه الله تعالى- ، لازم الشيخ البابونغري أستاذه ومربيه الروحي ، حتى ارتحل معه إلى بورما، وتعلم منه العلوم الشرعية والمعارف الربانية ، حتى فاق الأقران فى المعرفة الربانية والتزكية والإحسان ، ولما توفي الشيخ ضمير الدين بدأ يراجع العالم الكبير العارف الشهير والمرشد العظيم الشيخ المفتى عزيزالحق _ المتوفى سنة 1380هـ - 1960 م مؤسس الجامعة الإسلامية فتية شيتاغونغ ، واستفاد من علومه ومعارفه حتى أصبح شيخا يرجع إليه فى هذا الشأن بلا منازعة ، فكان العلماء والزهاد يراجعونه لتلقى التربية الروحية والسلوك والإصلاح النفسي والتزكية والإحسان، بعد وفاة شيخه المفتى عزيزالحق رحمهما الله تعالى .
مكانته بين العلماء والدعاة المعاصرين
وكان للشيخ مكانة سامية ومنزلة رفيعة ومرتبة عظيمة فيما بين علماء عصره ودعاة زمانه ، فكان كل العلماء يحترمونه ويوقرونه وينزلونه منزلة الصدارة ، وكلهم يكنون له فى صدورهم العزة والوقار والتقدير والإجلال ، وممن عاصر الشيخ البابونغري من العلماء والدعاة والمصلحين الكبار الخطيب الأعظم والمحدث الكبير رائد النهضة السياسة الإسلامية فى بنغلاديش الشيخ صديق أحمد الصكريوى ، وشيخ العرب والعجم الداعية الكبير والمصلح الشهير الشيخ محمد يونس عبد الجبار العيسابوري ، والعالم الكبير والذكي الأريب الشيخ المفتى نورالحق الجيروي ، والعالم الزاهد الشهير الشيخ حفاظت الرحمن الراجكاتوي ، والداعية الزاهد الكبير الشيخ سلطان أحمد النانوفوري ، وفقيه العصر المحدث الكبير العلامة أحمد الحق الشوابيلى، وأستاذ الأساتذة المحدث الشهير العلامة عبد العزيز الدهرم فوري ، والشيخ الكبير العلامة أحمد حسن بن العلامة محمد الراموي ، والشيخ الزاهد الكبير العارف الرباني الشهير العلامة على أحمد البوالوي ، والشيخ المصلح الكبير العلامة أشرف على ، والعلامة المحدث الكبير استاذ الأساتذة الشيخ محمد اسحاق الغازي الآشيائي ، وشيخ الشيوخ المصلح الكبير العلامة محمد الله الحافظجى حضور الداكوي ، وأشتاذ العلماء الشيخ العلامة شفيق البانسكهالوي ، والمفتى الشهير الشيخ إبراهيم الساتكانوي ، والمحدث الشهير الشيخ مير وغيرهم من كبار العلماء والدعاة . وكلهم كانوا يحترمون الشيخ أيما احترام .
زهـده وتقـواه
كان الشيخ زاهدا فى الدنيا وراغبا فى الآخرة بالمعنى الصحيح ، وكان يؤثر الآخرة على الدنيا ، فما كان يهمه الأكل والشرب والترفه والجاه وزهرة الحياة الدنيا ، وكان لا يلقى إليها بالا ، بل كان يؤثر غيره على نفسه فى أمور العيش فى الدنيا والتمتع بنعيمها ، ويؤثرحياة التقشف والزهد والورع على التنعم والتنزه والترفه بالحياة الدنيا وزخرفها وحطامها ، ولقد سمعنا مرارا وتكرارا فى خطابه ووعظه وإرشاده احتقار الدنيا وملذاتها وشهواتها ، فكان يكرر فى خطاباته قوله تعالى : وماهذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون . (سورة العنكبوت ، الآية: 64) وقوله تعالى : وما الحيوة الدنيا إلا متاع الغرور ( سورة آل عمران : 185 ) وقوله صلى الله عليه وسلم : الدنيا ملعونة ، ملعون مافيها إلا ذكر الله وما والاه وعالم أو متعلم . (رواه الترمذي (2322) وابن ماجة (4112) والبيهقي فى شعب الإيمان (1708) وابن عبد البر فى جامع بيان العلم (135) عن أبي هريرة مرفوعا ، وحسنه الألباني) ، وقول علي بن أبى طالب رض : ارتحلت الدنيا مدبرة وارتحلت الآخرة مقبلة ولكل واحدة منهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل . [رواه البخاري في باب الأمل وطوله]
فكان يبين حقيقة الدنيا وذمها وعدم ثباتها وفنائها ، وأنها لاتعدل عند الله جناح بعوضة ، وأن جميع الخير فى الإيمان بالله والعمل الصالح وحسن الأخلاق والتفانى والاستماتة فى سبيل الله والإيثار والتضحية لأجل الدين ، وكان عاملا حقيقيا بما يقوله عن الدنيا ، فكل من عاش الشيخ أو رآه عن كثب أو تعامل معه علم وأقر أنه مثال صادق حق الصدق لترك الدنيا وملذاتها وشهواتها. وكان ينفر الناس عن حب الدنيا ، ويكثر من قول القائل : حب الدنيا رأس كل خطيئة .
تأسيسه الجامعة الإسـلامية عزيزالعـلوم بابونغـر
من أكبر مآثر الشيخ التى تركها خلفه ، " الجامعة الإسلامية عزيزالعلوم بابونغر" شيتاغونغ ، بنغلاديش ، التى تقع إلى الجانب الشمالي ، على بعد 30 كلوميترا من مدينة شيتاغونغ ، أكبر وأرقى مدن جمهورية بنغلاديش الشعبية وعاصمتها الاقتصادية ، أسسها الشيخ تلبية لنداء الأهالى فى تلك القرية ، لتعليم أبناء المسلمين وبناتهم الدين وعلوم الشريعة عام 1345هـ - 1924 م ، بدأت سيرها كمدرسة ابتدائية صغيرة وكانت مسماة بـ"المدرسـة الإسلاميـة" ، فلم تلبث أن ازدهرت وترقت – توكلا على الله تعالى – حتى أصبحت جامعة كبيرة ، يشد إليها آلاف الطلاب رحالهم من كل فج عميق ، يدرس فيها من العلوم : التفسير والعقائد والحديث والفقه وأصولها وعلوم اللغة العربية والمنطق والحكمة والتاريخ والجغرافيا والأدب والتجويد ، تعد هذه الجامعة من كبرى الجامعات الأهلية الدينية فى بنغلاديش ، تخرج منها آلاف العلماء على مرالسنين وكر الأعوام ، ولازالت تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
تأسيسه للمـدارس الإســلامية
ليس أنه أسس الجامعة الإسلامية عزيزالعلوم بابونغر فحسب ، بل أسست مدارس دينية كثيرة ، وأنشئت كتاتيب قرآنية وفيرة ، وبنيت مساجد وجوامع غزيرة ، حسب إيمائه وإشارته وتحت إشرافه ، فكان يتفقد أحوال هذه المدارس ، ويعتنى بها اعتناءا بالغا ، بل كان يعتبر كل المدارس الدينية والجامعات الإسلامية كمدرسة نفسه ، وكان يكره التنافس فى التعصب والتحزب لمدرسة بعينها ، وكان يغضب غضبا شديدا حينما يقول أحد : هذه مدرسة فلان وتلك مدرسة آخر وهكذا. فكان يقول: كل المدارس الدينية سواء ، والكل مدارسنا ، وعلى كلنا أن نهتم بهذه المدارس إبقاءا للتراث الإسلامى وأداء لفريضة الأمانة الإلهية ، وإبلاغا لها إلى الجيل الناشئ الجديد .
عنايته بالتعليم والتربية
كان الشيخ مهتما بالتعليم والتربية ، ولأجل ذلك أسس الجامعة الإسلامية عزيزالعلوم بابونغر ، ولم يكن عنايته بالتعليم فقط ، بل عنايته بالتربية أكبر أيضا ، فكان يرى أن العلم إنما يأتى بكليهما ، فذات مرة سمعته يقول فى حديثه لطلاب الجامعة ، ترغيبا لهم بالأخذ بالتربية الروحية ، وتزكية النفس وإصلاح الباطن : " أنا إنما أديت نصف الفريضة بتأسيس هذه المدرسة ، (يعنى التعليم الظاهري )، والنصف الآخر باق حتى الآن ، ويعنى به العناية البالغة الفائقة بالجانب التربوى للطلاب ، وتزكية نفوسهم وإصلاح باطنهم من الأمراض الروحية والقلبية.
كان العلم فى نظره شيئا مهما ، كان لايسمى علما إذا لم يصحبه عمل ، فكان يقول : إن العلم الذي لايرشدك إلى الطريق الحق وإلى الصراط المستقيم هو جهل ألبتة . وكان يقول : لابد أن يقرأ الإنسان ليعرف مدي جهله ، فإذا قرأ عرف أنه كم كان جاهلا.
وفاته : توفي هذا البطل العظيم والداعية الجليل الشيخ محمد هارون البابونغري رحمه الله بعد ما خدم الدين والعلم والدعوة أكثر من نصف قرن مساء الإثنين قبيل غروب الشمس لثاني عشر خلون من ذي الحجة سنة 1406 هـ - 18/08/1986 م ، وصلى عليه صلاة الجنازة نجله الكبير العلامة محب الله رئيس الجامعة ودفن في المقبرة الهارونية جنب جامع الجامعة الإسلامية بابونغر .
مواقف من حياته
ذات مرة كنت معه فى رحلته الدعوية إلى منطقة " أنوارا " ، وصلنا إلي المكان قبل العشاء ، وبعد صلاة العشاء ، حدث الشيخ عن التمسك بالدين ، وبعد الفراغ من الحديث أصاب من العشاء ، وقابله بعض المحبين له ، فأعطاه واحد هدية وهي عبارة عن " الحذاء الجيد الغالى الجديد "، جلبه للشيخ من دبي ، لبس الشيخ أمامه تسكينا لخاطره ، ثم ذهبوا ونام الشيخ ، ولما استيقظ فى الثلث الأخير من الليل لصلاة التهجد ، أقمت معه للخدمة ، وكنت أصب ماء الوضوء عليه ، فرأيت الحذاء الجديد فى قدميه ، ففكرت أن الحذاء الجديد إذا ألقي عليه الماء ربما يكون خرابا ، فحاولت نزع الحذاء من قدميه ، فزجرني ونهرنى ، وقال : مالى وللحذاء ، ألق الماء لأغسل قدمي . فعلمت أن الدنيا وحطامها لاقيمة لها فى نظر الشيخ .
ذات مرة كنت معه فى سفره إلى منطقتنا، كان هناك حفلة سنوية فى المدرسة التى أسسها والدى رحمه الله بإشارة من الشيخ ، حضر الشيخ فى الحفلة وحدث للناس ، وحينما أراد أن يرجع إلى الجامعة ركبت معه فى " الركشة " ، فلما وصلنا إلى نصف الطريق بين " بائشارى " وبين " عيدغرا " قال الشيخ لصاحب الركشة : توقف ، فنزلنا من الركشة ، وأخذنى معه فبدأ يصعد تلة بجنب الطريق ، وطفقت أمشى معه ، فإذا رجل كبير السن ، صاحب لحية بيضاء ، مضطجع على الفراش ، معوق رهين الفراش ، لايستطيع القيام ، وأمامه "بباية كبيرة حمراء" ، ذهب الشيخ إليه ، فلما رأى الرجل الشيخ سلم عليه وحرك جانبيه وكأنه يريد أن يقوم ويتحرك من مقعده احتراما للشيخ وتعظيماله ، ولكنه لم يستطع ، فأشار الشيخ لأن يبقى على حاله ، فجلس قريبا منه ، وسأل عن أحواله وأهل بيته ، وبين له بعض الأمور الدينية ، ثم أعطا ه الشيخ بعض النقود ، لينفق فى حاجاته ، ولما أراد أن يغادر المكان قدم إلى الشيخ تلك البباية هدية له ، وودعه وعيناه مملوءتان بالعبرات .
بعض من كبار تلاميذه ومجازيه
استفاد من مواعظ الشيخ وخطاباته ومعارفه ومن حياته الدعوية والإرشادية والتوجيهية خلق كثير وجم غفير لايحصى ولايعد ، وفيما يلى أذكر أسماء بعض تلاميذه ومجازيه الكبار بالاختصار :
(1)الأديب الأريب، والكاتب اللبيب، رائد اللغة العربية فى بنغلاديش الشيخ العلامة محمد سلطان ذوق النـدوي، رئيس جامعة دارالمعارف الإسلامية شيتاغونغ ، وعضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية، وعضو الاتحاد العالمى لعلماء المسلمين، ورئيس التحرير لمجلة منارالشرق العربية.
(2)الداعية الكبير والواعظ الشهير الشيخ العلامة مظهرالإسلام النانوفورى رحمه الله .
(3)المحدث الكبير العلامة محمد يونس العظيمفوري رحمه الله ، محدث الجامعة الإسـلامية عزيزالعلوم، وجامعة نصير الإسلام ناظرهات سابقا.
(4)المحدث الكبير والشاعر الخبير العلامة محمد أيوب الرنغونوي ، محدث الجامعة الإسلامية فتية ، شيتاغونغ ، وعميد التعليم بها سابقا.
(5)العالم الجليل والداعية النبيل الشيخ سليمان الراموي ، - رحمه الله تعالى - رئيس جامعة دارالعلوم صقماركول .
(6)والدي الكريم الداعية الكبير الشيخ نذيرأحمد الراموي –رحمه الله – مؤسس المدرسة الإمدادية عزيزالعلوم برابيل ، غرجانيا ، رامو ، كوكس بازار.
(7)الخطيب الشهير الشيخ فروخ أحمد المهشكهالوي، -رحمه الله تعالى-.
(8)العالم النحرير الشيخ محمد حنيف الراموي – رحمه الله تعالى –
(9)العالم الجليل الشيخ محمد أحمد الراموي – رحمه الله تعالى – مؤسس المدرسة العزيزية قاسم العلوم ، غرجانيا ، رامو كوكسبازار.
(10)الخطيب الشهير الشيخ مشتاق أحمد البانسكهالوي ، - رحمه الله تعالى - .
هذا بعض ما تذكرت فى هذه الفرصة القصيرة ، من ذكرياته ، ومواقفه الحاسمة ، وتعاليمه القيمة ، وكلماته الإرشادية والتوجيهية ، فإذا أراد أحد أن يؤلف عن ترجمة حياته الحافلة يحتاج إلى كتابة آلاف الصفحات ، لأنها كثيرة وكثيرة . أذكرها فى فرصة أخرى إن وفقني الله سبحانه وتعالى .